18.4 C
الجمهورية اليمنية
8:44 صباحًا - 29 مارس, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

الأتراك في اليمن (3/4).. بلياردو في صنعاء

بلال الطيب

«الدولة القاسمية» التي ابتدأت مع خروج الأتراك من اليمن في حملتهم الأولى – مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري – انتهت بالتزامن مع تواجدهم الثاني – مُنتصف القرن الثالث عشر الهجري – أدت كثيرٌ من الأحداث إلى أفولها، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، ارتفعت فيه وتيرة التنافس «الانجلو – تركي»، وصار اللاعب الخارجي هو المُتحكم الرئيس بالجغرافيا والإنسان.

كان «اليمن الأعلى» تحت حكم الإمام عبدالله بن الحسن، و«اليمن الأسفل» تحت حكم قبائل «بكيل» الغازية، توالت تمردات الأخيرين، فيمم «إمام صنعاء» خطاه نحوهم «محرم 1253هـ / إبريل 1837م»، لتتقدم في ذات الوقت قوات محمد علي باشا صوب مدينة تعز، وذلك بعد عامين من سيطرتها على سواحل تهامة، وميناء المخا.

وفي إب، وقع الإمام عبدالله بين سندان قوات محمد علي، وكماشة قبائل «بكيل»، ولخروجه من هذه المُعضلة عاد إلى صنعاء مُنكسر القوة والخاطر، أيقن «صاحب الحوليات» بإدبار دولته، وأضاف: «وخالفت أطراف البلاد، واضطرب أمر ريمة ووصاب، وانقطع الرجاء والأمل من بلاد رداع.. أما اليمن الأسفل فقد نظم الترك أموره، وعمروا المدن والأسواق، وأمنت البلاد، وكثر المال في أيدي الأراذل».

بالتزامن مع مُغادرة القوات «التركية – المصرية» اليمن، اغتيل الإمام عبدالله بن الحسن «ربيع الآخر 1256هـ / يونيو 1840م»، لم يعترض خلفه الإمام محمد بن أحمد على وجود الإنجليز في عدن؛ بل سارع بإرسال ابن أخيه إلى القبطان هينس لإتمام معاهدة للتجارة والأمن، وشاكياً بمحمد علي باشا الذي سلم تهامة لحسين بن حيدر «صاحب أبي عريش»، عارضاً عليه استعداده تسليمه تعز، والمخا، والحجرية إن هو قبل وساعده في تنفيذ مُبتغاه، وحين لم يجد رداً مقنعاً؛ بادر بإرسال عدد من البعثات والهدايا، ولكن دون جدوى.

كشفت وثائق إنجليزية – أرخت لحوادث تلك الفترة – أنَّ القبطان هينس المشغول حينها بتثبيت دعائم سيطرته على عدن وضواحيها، لم يكن باستطاعته تقديم أي دعم حربي لـ «إمام صنعاء» المُسيطر سيطرة شكلية على تعز، والمخا، والحجرية، وإنَّما كان همه تشجيعه على غزو لحج؛ ليضمن سلامة عدن من القبائل المُجاورة.

بعد وفاة الإمام محمد «ذو الحجة 1259هـ / يناير1843م»، عاد الإمام علي بن عبد الله لتولي الحكم، لتتجدد معارضة الأخير من قبل محمد بن يحيى، والأخير أمير «قاسمي» سبق وتوجه مع أبيه إلى تهامة قبل «15» عاماً، تبدت من هناك طموحاته السلطوية، وذهب إلى القاهرة بعد خروج قوات محمد علي باشا، ليعود منها بعد عامين، مُرتمياً في أحضان حسين بن حيدر حاكم اليمن باسم «الدولة العثمانية»، والذي كان حينها قد أتم سيطرته على مُعظم نواحي «اليمن الأسفل»، ونكل بـ «مُستوطني بكيل» شرَّ تنكيل.

تولى محمد بن يحيى الإمامة بدعم من «صاحب أبي عريش»، الذي أعاد له أيضاً معظم مناطق «اليمن الأسفل» كتعز وغيرها، لم يدم الود بينهما طويلاً، اختلفا، فعاود «ابن حيدر» السيطرة على تعز مرة أخرى، فيما بادر «إمام صنعاء» بالتواصل مع الإنجليز، طالباً منهم المساعدة، من أجل استعادتها وتهامة لحضيرة دولته.

بوصفه حاكماً لتهامة باسم «الدولة العثمانية»، قام «ابن حيدر» بإبلاغ السلطات التركية بالأمر، وكتب إلى «والي جدة» شريف محمد رائف برسالة شارحة، جاء فيها: «بلغنا خبر كاد أن يبلغ حد التواتر، أنَّه قد صار بين المتوكل صاحب صنعاء، وبين الإفرنج اتفاق على انتزاع الديار التي تحت أيدينا منا»؛ استعرت الحرب بين الجانبين، ودارت مواجهات كثيرة، انتصر في أخرها «إمام صنعاء»، أسر الأمير حسين «محرم 1263هـ / ديسمبر 1847م»، وحبسه في قلعة «القطيع»، ثم أكمل طريقه جنوباً، استعاد بعض مناطق تهامة لبعض الوقت، ثم ما لبث أن انسحب منها لأسباب قاهرة.

أرسل الأتراك في الحجاز جيشًا قوامه «3,000» مُقاتل «جمادي الأولى 1265هـ / إبريل 1849م»، أحتل الحديدة وأجزاء من تهامة، فابتدأ بذلك التواجد التركي الثاني في اليمن، وقد ذكر المؤرخ الواسعي أنَّ «ابن حيدر» ذهب بعد تحريره من الأسر إلى «الاستانة» مُستنجداً بالسلطان عبدالمجيد بن محمود، فيما ذكرت مصادر أخرى أنَّ مُفتي تهامة محمد الأهدل استنجد بالأتراك بعد أن عاثت قبائل «يام – الإسماعلية»، والقبائل «الزيدية» في بلاده نهباً وخراباً، وأنَّ السلطان وجه بتحريك تلك الحملة لنجدة التهاميين من ذلك البطش.

الغريب في الأمر أنَّ «إمام صنعاء» فرح بقدوم تلك الحملة، واستنجد هو الآخر بها ضد القبائل الشمالية المناوئة له، واستقبلها بنفسه في حدود مملكته؛ ومدعاة ذلك الفرح يعود في الأصل لصدور فرمان سلطاني بتعيينه حاكماً على صنعاء، وتبعية اليمن لـ «الباب العالي»، وتخصيص راتب شهري كبير له مقداره «37,000» ريـال.

تمكّن توفيق باشا القبرصي «والي جدة» من دخول صنعاء «رمضان 1265هـ / أغسطس 1849م»، سارع فقهاء «الزيدية» المُتربصين بتأليب العوام، ولم يعدموا الذريعة، أشاعوا أنَّ الأتراك يمارسون الرذائل، ويعاقرون المسكرات، وهو الأمر الذي نفاه المؤرخ الكبسي بقوله: «ثارت العامة على الجند السلطاني، وهم حينئذ قليلون آمنون، ولم يصدر منهم ما يُوجب ذلك»، قتل كثير من الأتراك، وعاد من نجا منهم إلى الحديدة التي ظلت تحت أيديهم.

عاشت «الإمامة الزيدية» بعد ذلك أسوأ أيامها، تولى حكمها أئمة ضعاف، انصرفوا إلى شؤونهم الخاصة، حتى ضعفت سلطتهم، وسقطت هيبتهم، وانقسم أنصارهم شيعاً وأحزابا، تآمروا ضد بعضهم، وقضى المُنتصر على المُنكسر، وكثيراً ما كانوا يستنجدون برجال القبائل، مما عرَّض مدينة صنعاء وغيرها من المدن لغارات عديدة، كثرت فيها حوادث السلب، والنهب، والتخريب.

دفعت تلك الأوضاع المضطربة عدداً من العلماء، والزعماء، والتجار للاستنجاد بالسلطان العثماني عبدالعزيز بن عبدالحميد، ودعوته لحكم اليمن، وضبط أمورها، وكان عدد من الأئمة ضمن قائمة المُستنجدين، كغالب بن محمد، وعلي بن عبدالله، والحسين بن أحمد، فيما تولى «شريف مكة» محمد بن عون زمام الوساطة، وجاء في وثيقة الاستنجاد: «أن العرب حول صنعاء قد شقوا عصا الطاعة، واستبدوا بالبلاد بالعتو والفساد، فنرجو أن تمدونا ببعض العساكر لإنقاذ اليمن من الفوضى والانهيار».

عاود الأتراك استيلائهم على صنعاء بقيادة الوالي أحمد مختار باشا «صفر 1289هـ / إبريل 1872م»، وامتدت سيطرتهم لتشمل جميع مناطق «اليمن الأسفل»، وذلك بعد ثلاث سنوات من افتتاح قناة السويس؛ ويعزوا بعض المؤرخين ذلك كسبب رئيس لذلك التمدد، والمُفارقة العجيبة أنَّ الأئمة السابق ذكرهم كانوا في استقبال الوالي العثماني وجنده؛ بل أنَّ بعضهم عمل تحت إدارته!!.

لم يكتفِ الأتراك بالسيطرة على صنعاء؛ بل قاموا بعد أربعة أشهر بعدة عمليات توسعية، نكلوا بكل من اعترض طريقهم، وأرهبوا كل من يفكر بالخروج عليهم، واجتاح البلاد شعور بالرهبة والخوف، حتى أنَّ القبائل العاتية هالها وروعها ما كان معهم من مدافع وآلات، وتسنى لهم – أي الأتراك – بعد ثمانية أشهر تنظيم أمور صنعاء، كولاية رابعة بعد «عسير، والحديدة، وتعز»، وكانت هي العاصمة، كما بادروا بتشكيل حكومة مُصغرة لتسيير دفة الحكم.

وما يجدر ذكره أنَّ سيطرة الأتراك لم تصل إلى صعدة وما جاورها، فقد ظلت تلك المناطق تحت سلطة الإمام مُحسن الشهاري الذي تظاهر بادئ الأمر بمولاته لهم، فيما كان يعمل خفية على تحشيد الأنصار، مُتخذاً من القفلة مقراً له، وبسبب مساندتها لذات الإمام عمل الأتراك على إخضاع قبيلة «حاشد»، وأرسلوا لأجل ذلك بحملة عسكرية، نكلوا بالخارجين، وقتلوا الكثير منهم، وحزوا زهاء «40» رأساً، واقتادوها مع الأسرى إلى مدينة صنعاء، وهناك وفي إحدى الساحات العامة تعرضوا لضربٍ مُبرح، لقي كبيرهم «ابن الأحمر» بسبب ذلك حتفه، فيما زج ببقيتهم في السجون، وهم بين الحياة والموت.

وفي العام «1290هـ / 1873م»، عينت الحكومة التركية أحمد أيوب باشا واليا على اليمن، تم في عهده مد «سلك التليغراف» من الحديدة إلى صنعاء، وتم بعد ثلاث سنوات استبداله بالوالي مصطفى عاصم، اتخذ الأخير سياسة جديدة فيها الكثير من العنف والقسوة، خاصة بعد أن جاهر الإمام محسن الشهاري بعدائه للأتراك، وتبعاً لذلك فقد وجه ذات الوالي باعتقال «40» من علماء صنعاء؛ بسبب معاونتهم لذات الإمام، وأمر بسجنهم في الحديدة.

قاد مصطفى عاصم بعد ذلك حملة عسكرية شمالاً، إلا أنَّه لم يستطع إخضاع قبيلة «حاشد»، ولم يستطع الظفر بالإمام الشهاري، الذي لم يستقر بمكان معين، وعن الأخير قال الشماحي: «لا مقر له، ولا قصر، ولا حصن، ولا عاصمة، إلا سُرج حصانه يغادي به الأتراك ويراوحهم، وله من قلب كل زيدي عاصمة لا يخرق سورها».

في عهد هذا الوالي، زار صنعاء المصور الإيطالي «رينزو مانزوني»، وجاء وصفه للمدينة مُدهشاً؛ بل لا يكاد يصدق، حيث قال: «البيوت رائعة وكبيرة، الطرقات الواسعة والجميلة نظيفةٌ جداً، عندما أتواجد في حيّ المقاهي التركية، والدكاكين اليونانية، يخيّل إليّ وكأنني في ضاحية أوروبية، ألتقي بجنود أتراك في كل مكان، هم لطفاء مع العرب المغزوّين، ولا يحدث أبدا أيّ صدام ولا أيّة مشاجرة»، وأضاف: «الجميع يمدح هذا التصرف، العرب اليمنيون الذين ألتقي بهم أنيقون وجليلون، يبدو وكأنَّهم لا يهتمون أبدا بوجود أجنبي غريب، ألتقي أيضا بالعديد من الضباط الأتراك، الذين بمرورهم يتركون وراءهم رائحة زكيّة للسجائر التي يدخنونها كالفنانين المحترفين، وإجمالا نجد في صنعاء كل ما يحتاج إليه، يوجد في البازار مقهيان تركيان، ومقهى يوناني، واحداً فيه بلياردو، ومحلان للحلاقة، ومحل ساعاتي».

كانت اليمن بالنسبة لبعض الولاة العثمانيين منفى وعقاب؛ إما لجرم اقترفوه، أو لوشايات تجاوزت عتبة «الباب العالي»، ولهذا فإن هؤلاء لم يحسنوا إدارة البلاد، مارسوا الرشوة والفساد، وسعوا للإثراء الفاحش على حساب العباد، كان الوالي مصطفى أحدهم، تم عزله، وجيء بالوالي العادل إسماعيل حقي باشا «1293هـ / 1876م»، الذي يعد من أفضل الولاة، أمر بإخراج علماء «الزيدية» من سجن الحديدة، وامتدحه الواسعي بقوله: «فرح الناس به، ونشر لواء العدل والإنصاف، وقطع دابر الارتشاء والاعتساف».

في ذات العام، مات في «الخمري» الإمام محسن الشهاري، ليخلفه محمد الحوثي، كان الأخير من جملة العلماء الذين حبسهم الأتراك في الحديدة، أستمر في دعوته، ولم يسانده أحد؛ لأن الأنظار كانت متجهة صوب شرف الدين محمد بن عبدالله، الشهير بـ «عشيش»، الذي أعلن هو الآخر نفسه إماماً.

يُحسب للوالي إسماعيل حقي إنشائه لـ «مكاتب رشدية» لتعليم أبناء اليمن وتهذيبهم، كما يحسب له تشكيله لأول جيش يمني في الشمال، سماهم «حميدية» نسبة إلى السلطان عبدالحميد بن عبدالمجيد، اعتنى بتربيتهم، وتهذيب عقولهم، حتى كان يسميهم البعض بأولاده، وكان لهم دوراً بارزاً في تهدئة الأوضاع، وحين أراد أن يجعلهم مكان العساكر التركية، جاءت الأوامر بتسريح ذلك الجيش، ثم عزله «1297هـ / 1880م»، لتبدأ بعد ذلك التمردات القبلية العاصفة، مسنودة بإمامة «عشيش».

لم يستطع الوالي الجديد محمد عزت باشا إخماد تلك التمردات، دارت بينه وبين أنصار الإمام «عشيش» حروبًا كثيرة، نجحت قواته في إحداها بالسيطرة على «ظفير – حجة»، بقيت فيها سبعة أشهر، ثم عادت أدراجها خائبة، وحين لم يتحقق له في تلك الجهات ظفر ولا نصر، مات كمداً، وذلك بعد ثلاث سنوات من مقدمه، ودفن بصنعاء، أما «عشيش» فقد اتسعت رقعة حكمه، لتشمل «الأهنوم، وحجور الشام، وذيبين، والجوف، وبرط»، وقد توجه إليه بدافع عقائدي عدد من العلماء والأعيان.

ورث أحمد فيضي باشا – الوالي الجديد – تلك الأوضاع المضطربة، زادت الأوضاع الاقتصادية الجائرة التي عصفت بالبلاد من تذمر العامة، لم يعمل الوالي الجديد على حلحلتها، كثر شاكوه، وقلَّ شاكروه، فقام السلطان العثماني بعزلة، وذلك بعد عام واحد من توليته، فجيء بالوزير عزيز باشا بدلاً عنه «1301هـ / 1884م»، ابتدأ الأخير عهده بمحاربه الإمام «عشيش»، لتشهد منطقة «عيال يزيد» معركة كُبرى بين الجانبين، هُزم فيها الأتراك، وانسحبوا على إثرها إلى عمران، الحد الفاصل بينهم وبين دولة الإمامة، كما قام ذات الوالي برفع الظلم عن المواطنين، ومنع المأمورين من التعدي والارتشاء، فشق ذلك على الأخيرين، رفعوا إلى السلطان عبدالحميد بتقارير كيدية عنه، فتم عزله.

جيء بعد ذلك بالمشير عثمان نوري «1303هـ / 1886م»، كان هذا الوالي ميالاً إلى الفساد، استمرت ولايته لعدة أشهر، تماماً كسلفه، جيء بسميه الفريق عثمان خيري بدلاً عنه «ذي الحجة 1305هـ / أغسطس 1888م»، كان الأخير من أكثر الولاة تديناً، امتدحه المؤرخ الواسعي بقوله: «لم يأت في اليمن والٍ مثله، كثرت في زمنه الخيرات والبركات، وانقطعت الفتن والمحاربات، ومنع المأمورين من الظلم والارتشاء».

تبعاً لذلك، عمل الفاسدون على الوشاية بهذا الوالي العادل، ليأتي قرار عزله بعد عام واحد من توليته، جيء بعد ذلك بإسماعيل حقي باشا مرة أخرى، وصل الأخير مدينة الحديدة في «ذي القعدة 1307هـ / يونيو 1890م»، وذلك بالتزامن مع وفاة «عشيش»، ودعوة الإمام محمد يحيى حميد الدين.

بعد ثلاثة أشهر من دعوته، غادر الإمام الجديد صعدة، استقر في القفلة، وجعلها عاصمة له، ومن هناك أخذ يوجه دعاته لاجتذاب القبائل الشمالية لمحاربة الأتراك، أعداؤه الذين كان يكن لهم عظيم الكره؛ حيث سبق وأن حبسوه في الحديدة قبل «15» عاماً؛ بدأ عهده بمحاربتهم، واستجابت القبائل لندائه التحريضي.

ليس في بلاد من بلاد «الزيدية» في اليمن – كما قال المؤرخ العرشي – إلا وللإمام محمد فيها معركة، وقيل أنَّها وصلت لحدود «150» موقعة، سيطرت قواته عام توليه على «الشاهل»، هزمت الحامية العثمانية فيها، أما باقي الحملات فقد توجهت صوب «ظفير حجة، ومسور، وحفاش، وملحان، والروضة»، ولم يأتِ العام «1308هـ / 1891م» إلا وقواته التي قدرت بـ «70,000» مقاتل تحاصر صنعاء، دارت حينها معارك كثيرة في «عصر، ونقم، والجرداء، والجراف»، فيما أعلنت ذمار، ويريم طاعتها، كما تشجع «مستوطنو بكيل» في «اليمن الأسفل» على التمرد، حاصروا الأتراك في مراكزهم في إب، والقاعدة، وقد كان لوفاة الوالي العثماني إسماعيل حقي – حينها – أثره البالغ في تنامي حدة تلك التمردات.

عانى سكان صنعاء من ذلك الحصار الأمرين، وحين اشتد ببعضهم الجوع، خرجوا بأهلهم بحثاً عن مكان آمن، وفي الطريق تلقفهم المحاصرون، وفتكوا بهم، وقد فضح المؤرخ الواسعي جُرم تلك القبائل بقوله: «ارتكبوا أنواع الفضائح، وأغضبوا الرب تعالى بفعلهم القبائح، هتكوا الأنفس والأعراض، وكلما خرج إنسان نهبوه، وإن وجدوا امرأة هتكوا عرضها».

كما ينقل الرحالة الإنجليزي «هاريس» الذي كان حينها متواجداً في صنعاء تفاصيل دقيقة لبعض المعارك التي دارت حول المدينة المحاصرة، وقال في نقله لإحداها: «أطلقت القوات العثمانية المتحصنة في قلعة صنعاء نيران مدافعها بصورة منتظمة على مواقع رجال القبائل المحاصرين للمدينة، مما ساعد العثمانيين على الخروج من البوابة الجنوبية والاتجاه شمالاً، حيث نشبت معركة عنيفة، رجحت كفة الترك، وتمكّنوا من طرد رجال القبائل الذين اضطروا إلى التقهقر تجاه قرية صغيرة قريبة من أسوار صنعاء، وقد تمكّنت القوات التركية بمساعدة بعض المدافع الصغيرة من تدمير منازل تلك القرية تدميراً تاماً، وتمكّنت كذلك من رد هجوم مضاد قام به الثوار، وأخيراً اضطر رجال القبائل إلى التقهقر بعد أن تركوا آلافاً عديدة من القتلى في ميدان المعركة، ورغم انتصار القوات التركية على الثوار، لم يكن هذا الانتصار كله في صالحهم، إذ أدى ترك جثث القتلى دون دفنها إلى انتشار الأمراض بين السكان».

بعد وفاة إسماعيل حقي باشا، عين الأتراك الفريق حسن أديب بدلاً عنه، وحين لم يصل الأخير إلى صنعاء بسبب الأوضاع المضطربة، صدرت الأوامر لأحمد فيضي باشا بالتوجه من مكة إلى الحديدة، وهو والٍ شجاع، سبق وتولى ولاية اليمن، نجح ومعه آلاف العساكر بإخماد ذلك التمرد، ودخول مدينة صنعاء «ربيع الأول 1309هـ / أكتوبر 1891م».

يقول المؤرخ الواسعي عن تلك المعركة الفاصلة: «مع فساد نية القبائل، وارتكابهم المحرمات، حاق مكر الله بهم، فلم يزالوا ينهزمون للأتراك من محل إلى محل، وأصابهم الخوف والوجل، والذل والفشل، وكلما وصلوا إلى محل، هرب أهل ذلك المحل، حتى دخل الوالي صنعاء، وعم الناس السرور والفرح، وزال عنهم البؤس والترح».

وفي «اليمن الأسفل» تحركت قوات تركية من تعز إلى إب، سيطرت عليها دون قتال، ولم يعترض طريقها إلا بعض «مستوطني بكيل» في «نقيل السياني»، وقد ولوا بعد هزيمتهم هاربين، وإلى ذلك أشار صاحب «الدر المنثور» كاتب سيرة الإمام محمد: «تقدمت العجم من مدينة تعز إلى حصون الأخطور، ونقيل المحرس، وفيها جماعة من آل دماج، وأحمد بن قائد، وجماعة من ذو غيلان، فوقع الحرب بينهم بالموضعين.. وأخذت العجم الحصنين».

بعد أن صدر قرار تعينه والياً على اليمن للمرة الثانية، أصدر الوالي أحمد فيضي باشا أوامره بالعفو العام عن كل الخارجين، فأعلنت القبائل «الزيدية» المتمردة طاعتها له، وما هي إلا أشهر معدودة حتى قاد بنفسه جيشا جرارا صوب القفلة عاصمة الإمام، وحين أدرك الأخير أنَّه هالك لا محالة، سارع بتهريب الأموال والذخائر، ثم أوى إلى كهف بعيد يعصمه من الموت.

حين وصل الوالي أحمد فيضي باشا إلى القفلة، ولم يجد الإمام محمد فيها، أمر بتدمير بعض الحصون، ثم توغل في مناطق «حاشد» وصولاً إلى «برط العنان»، وهناك أخذ جنوده الأسرى من قبيلة «ذو محمد» دون فدية، ليوجه فور عودته صنعاء باعتقال «55» من العلماء والأعيان بتهمة التواصل مع الإمام الهارب، أرسلهم إلى الحديدة، ومن هناك تم نفيهم إلى «جزيرة رودوس» في البحر الأبيض المتوسط، وقد ظلوا فيها قرابة «18» عاماً.

رغم جبروته، واتهامه بالفساد، عمل الوالي فيضي على تحقيق بعض الإنجازات التي تحسب له، فقد شيَّد – عام توليه – عدداً من الحصون والقلاع فوق الجبال المطلة على مدينة صنعاء للدفاع عنها من هجمات القبائل المُتكررة، كما أعاد بناء «باب اليمن» على هيئته الحالية، وأمر بتعبيد الطرق بين ألوية الولاية، وقال عنه صاحب «الدر المنثور»: «وغرم في ذلك أموالاً واسعة.. كل ذلك لأجل أن ينسيهم الفساد، ويُشغلهم بذلك عن المراد».

لم تطل مدة بقاء الإمام محمد حميد الدين بالكهف، فقد وصل إليه عدد من مشايخ «حاشد»، أرضوه بعقير، وطلبوا منه النزول في ضيافتهم، أقام بحوث مدة، ثم أدلف راجعاً إلى القفلة، ليبدأ بعد ذلك بالتدلل إلى الأتراك، والتوسل إلى سلطانهم عبدالحميد الثاني بعدة مراسلات، طلب منه في إحداها أن يحكم «اليمن الأعلى» تحت مظلة السلطان، تماما مثل محمد علي باشا وبنيه، ولم ينسَ أن يتباهى بسلالته، وبأنها الأحق بالحكم والولاية، ولو بدرجة «نائب سلطان».

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد