25.2 C
الجمهورية اليمنية
10:53 صباحًا - 20 أبريل, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

طاغية عابر للحدود

بلال الطيب :

طُغيان الدولة الدينية أسوأ بكثير من طغيان الفرد، قد ينتهي الأخير بموت الزعيم الأوحد، أما الأول فيبقى ما بقيت الدولة، كونه يرتكز على اجتهادات الإمام المؤسس، وتفسيراته الذاتية للنصوص الدينية، والحاكم هنا أيّاً كان، فهو «ابن السماء»، والمَحكوم «ابن الأرض»، وما على الأخير سوى الطاعة والانصياع، عبادة لله، وإرضاء للإمام.

كانت للطاغية عبدالله بن حمزة طموحات توسعية، تذهب إلى ما هو أبعد من اليمن وشبه الجزيرة العربية قاطبة، ولو لم يكبح «الأيوبيون» جماحه؛ لكانت دولته الدينية توسعت، وشملت كثيرا من البلدان، وتلظى بجحيمها كثير من البشر؛ بل وتوارثوا شرها حتى قيام الساعة.

تبدت تلك النزعة التوسعية في أقوال وأشعار «ابن حمزة »، وكان دائماً ما يُصورها بالحق المَسلُوب الواجب استرجاعه، ويؤكد ذلك قوله: «ونحن طلبة الحق الذي غلبنا عليه.. ونحن الموتورون، وطلبة الدم، ولو لم يبق من عمر الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم؛ حتى نملك الأرض بين أقطارها على بني العباس، وعلى غيرهم من الناس»، وقوله:
لنا في أقاصي الشرق شرق نرومه
وبعد ديار الغرب في الغرب مغرب
نروم أموراً والإله ضميننا
بإنجاز ما نرجوه منه ونطلب

وكان دائماً ما يحيي تلك النزعة عند أنصاره، مُمنياً إياهم بفتح الأمصار، وأخذ السبايا والأموال، جهاداً في سبيل الله، ونُصرة للإمام، وخاطبهم مُعتداً بنفسه:
لا تحسبوا أن صنعاً جل مأربتي
ولا ذمار إذاً أشمت حسادي
واذكر إذا شئت تشجيني وتطربني
كرَّ الجياد على أبواب بغداد

صحيح أنَّ ذلك التوسع لم يتحقق كما كان يُريد، إلا أنَّ دعوته نفذت بعد ثلاث سنوات من إمامته إلى الحجاز، وبويع له في مكة، وأقيمت له الجُمع في ينبع، وخيبر، وكانت الحقوق الواجبة على مدى سنوات تصله من تلك الجهات، وقام له بالدعوة هناك قتادة بن إدريس.

كانت لـ «الإمامة الزيدية» حينها دولة في «طبرستان»، أسسها الحسن بن زيد الحسني مُنتصف القرن الثالث الهجري، تعاقب عليها عدد من الأئمة، أغدق «ابن حمزة» على فقهاء تلك البلاد بالهدايا؛ فُخطب له، الأمر الذي حفزه ليبعث دعاته إلى بلاد «الديلم» و«جيلان»، وبالفعل صار له فيهما ولاة وأنصار.

وعن ذلك قال صاحب «الحدائق الوردية»: «ولما صدرت تصانيفه إلى الجيل والديلم صحبة الداعيين سنة أربع وستمائه، واظل عليها السادة من أهل البيت عليهم السلام، وفقهاء الزيدية، تداكوا على بيعته تداك الإبل العطاش عند الحياض»، وأضاف: «وخطب له في مساجدها، وصليت الجمع، وقبضت الحقوق الواجبة باسمه.. ولم يُعلم أنه اجتمع لأحد من أئمتنا عليهم السلام ما اجتمع له من انتظام أمور اليمن، والحجاز، وجيلان، وديلمان».

وقد ذكر أهل «جيلان» في كتاب ورد منهم لذات الإمام، أنهم عقب إجابتهم دعوته، رأي أحد علمائهم في منامه أنَّ هاتفاً من السماء نادى بأعلى صوته قائلاً: «يا أيها الناس، عليكم بالله الأكبر، والإمام الأطهر، والنور الأزهر، والعلم الأنور عبدالله بن حمزة، وإلا فعليكم لعنة الله».

وفي بغداد خاطب الحسن النساخ خليفتها «الناصر» أحمد قائلاً: «وقد بلغت دعوته جيلان وديلمان.. فماذا بعد اشتهاره بالقيام تنتظرون»، وحرضه على سرعة القضاء على «ابن حمزة »؛ قبل أن يسلب مُلكه، وعبر عن ذلك شعراً:
ويدخل بغداد ويقتل أهلها
ويفني بسلب الملك من هو سالبه
ويطلع فوق المنبر الأسمر الذي
خليفتنا للأمر والنهي راكبه

تحريض فيه كثير من المُبالغة، والقارئ لدوافعه الانتقامية بعد محنة «المُطرَّفية» الذائعة الإجرام؛ يعذر «النساخ» في ذلك، والطامة الكبرى أنَّ «ابن حمزة» رغم ضعفه، وانشغاله بحروبه الداخلية؛ تماهى مع ذلك، وخاطب «العباسيين» قائلاً :
قل لبني العباس ما بالكم
لا تلحظونا لحظ رجحان
وقل تخطتكم لنا دعوةٌ
جالت على أقطار جيلان

تحمس الخليفة «العباسي» للقضاء على الإمام «الحمزي»، خاصة بعد أن صالح الأخير الملك «الأيوبي»، فبدأ بالتواصل مع بعض القبائل العربية للغرض ذاته «612هـ»، وأغدق عليهم الأموال، علم «ابن حمزة» بذلك، فاحترز واعتزل الناس، وذكر صاحب «أنباء الزمن» أن خليفة بغداد بعث برجلين من «الحشاشين» لذات المهمة، وأنَّ أمرهما افتضح بمجرد وصولهما مدينة صعدة.

قال «ابن حمزة» عن الخليفة «العباسي»: «إن هذا الرجل قد أفنى الأموال الجليلة على الظفر بي، ولو بذل لي بعض هذه الأموال لَمَلَكَ بها قيادي، ولكنت له أنصح وأخلص من كثيرٍ ممن يعتمد عليهم»، فبلغ ذلك الخليفة، فرد عليه: «أنا يسهل علي المال العظيم أملاً أن أبلغ أقل غرض لي، على وجه الغلبة، ولا يسهل علي بذل درهمٍ واحدٍ مع وهم أنه خداع».

كان لـ «ابن حمزة» وزيرٌ نفذ إليه الخليفة بجملة من المال، على أن يكون بطانةً له، يعينه على بلوغ غرضه، فأطلع الوزير سيده الإمام على ذلك، فشكره وأحسن إليه، ثم أعفاه من خدمته، فقيل له لما فعلت ذلك، فقال: «لا يسهل علي أن يخدمني، وأراه بعينٍ أنه يمتن علي، بأنه أبقى عليّ روحي، وفي الناس سعة لي وله».

توفي «ابن حمزة» بمدينة كوكبان «12 محرم 614هـ»، عن «52» عاماً، بعد أن نقض صلحه مع الملك «المسعود»، وقبل أن يحقق طموحاته التوسعية، فخلفه ولده الشاب عز الدين محمد، والذي كان حينها في جبل «كنن ـ خولان العالية» يقود إحدى معاركه الخاسرة مع «الأيوبيين»، اختبره بعض فقهاء مذهبه في علمه، فوجدوه ضعيفاً ناقصاً عن رتبة الإمامة، فلم يخطبوا له، إلا أنّه أعلن نفسه مُحتسباً، وتلقب بـ «الناصر».

تنفس «الأيوبيون» بعد وفاة «ابن حمزة» الصعداء، انقضوا بسرعة خاطفة على أغلب مدن وحصون «اليمن الأعلى»، ساهمت الخلافات «الزيدية ـ الزيدية» في تمددهم، فيما بقي «الحمزات» مُسيطرين على بعض الحصون، صالحهم الملك «المسعود» مرتين، ونجح في استمالة قريبهم الأمير سليمان بن موسى «617هـ/ 1220م»، فكانت نهاية الأخير على أيديهم.

بعد تسع سنوات من الانكماش، قاد عز الدين محمد «1,700» من مُقاتليه لاجتياح صنعاء، وفي «عَصر» هزمه «الأيوبيون» هزيمة نكراء «26 رجب623هـ»، وهي معركة «لم يسمع بمثلها فيما مضى»، حد توصيف صاحب «السمط الغالي»، وأضاف ذات المؤرخ: «فيقال أن الذين أمكن جزّ رؤوسهم ألف أو يزيدون.. وانهزم الأشراف لا يلوي أحد منهم على أحد».

أصيب عز الدين محمد في تلك المعركة بإحدى عينيه، ولم يعد معه من مقاتليه سوى «40» فرداً، جلهم من أسرته، انسحب بهم إلى ثلا، وفي حوث وقبل أن ينتهي ذلك العام كانت وفاته، عن «32» عاماً، وقيل مات متأثراً بجراحه.

استعصت صعدة قبل ذلك على «الأيوبيين»، ومنها أعلن يحيى بن المحسن بن محفوظ نفسه إماماً «صفر 614هـ / مايو 1217»، مُسنوداً بقبائلها ومشايخها وعلمائها، وعدد من بني عمومته، وهو أحد تلاميذ محمد بن نشوان الحميري، وأحد أحفاد «الهادي» يحيى.

تلقب الإمام الجديد بـ «المُعتضد»، عارضته غالبية قبائل «همدان»، وناصرته قبائل «خولان الشام»، أمدته الأخيرة بالمال والرجال، خاض بهم حروبه، وحقق بعض الانتصارات، وقال فيهم:
وناد بخولان ابن عمرو إمامهم
فلبت سراعاً نحوه صيد خولان
قبائل حلت في قتام ويسنم
وبين فقيع قد أقاموا وقيوان
مآثرهم في الجوف تحكي وحجة
وفي شظب تروى وفي رأس يونان
وهم فتحوا مقراً معاً وسحولها
وهم عسكر يزهو بهم كل سلطان

رغم أنَّ عبدالله بن حمزة قال بأنَّه لا يعلم في دار الإسلام من هو أعلم من يحيى بن المحسن، وأنَّ معه علم أربعة أئمة، إلا أنَّ «الحمزات» بقيادة ولده عز الدين محمد حاربوه، ألبوا عليه قبائل «همدان»، وأخذوا منه مدينة صعدة عنوة، وقتلوا في «الجبجب» علي بن يحيى بن أحمد بن سليمان، أحد أبرز أنصاره.

طالب حينها «المُعتضد» النصرة من الأمير أحمد بن القاسم بن وهاس حاكم «المخلاف السليماني»، وخاطبه في إحدى أشعاره قائلاً:
فعارضها أبنا حمزة عنوة
ومالوا إلى الشتوي جهلاً وقلدوا
أترضى بهذا يا سلالة قاسم
وكشف حريم جدهن محمد
هم حسدوا إرثنا من جدودنا
ضلالاً وأرباب الرئاسة تحسد
ثلاثون منا من إمام نعده
ومُحتسب هل فيهم ذاك يوجد

تنقل «المُعتضد» ما بين «خولان الشام، والأهنوم، وشهارة»، وفي الأخيرة حظي بمساندة أحفاد القاسم العياني، شاركوه بعض حروبه، حقق بهم بعض الانتصارات، فيما كانت معاركه في جولتها الثانية مع «الحمزات» سجالاً، حاول استعادة مدينة صعدة منهم أكثر من مرة، ليُحصر بعد هزيمته في ضواحيها.

كان «المُعتضد» بشهادة كثير من المؤرخين سيء الحظ، تفرق بعد ثلاث سنوات من الصراع أصحابه عنه، وكذلك بنو عمومته، فقال فيهم:
يا شيعة الهادي إلى الحق هل لكم
إذا سأل الله العباد جواب
رجوتكم أن تنصروا وتعاضدوا
ونصركم لي غيبة وسباب
أيعجزكم حمل المواضي لنصرتي
فأثقل من سيف عصا وجراب

استقر «المُعتضد» بعد ذلك في «خولان الشام»، وتفرغ للتأليف والعبادة، وقيل أنه اعتزل الأمر، لتعود بتنحيه «الإمامة الزيدية» إلى حالة الضعف والانكماش، وفي منطقة «ساقين» كانت وفاته «رجب 636هـ / 1239م»، وذلك بعد ثمان سنوات من ميلاد «الدولة الرسولية».

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد