عيبان محمد السامعي :
تتناول هذه الحلقة طبيعة الفيدرالية التي سادت في الدول اليمنية قبل ظهور الاسلام. ولكن قبل الخوض في الموضوع, يجدر بنا أن نعطي لمحة عن الارهاصات الأولى التي قادت إلى نشوء الكيانات السياسية في اليمن القديم.
نشأة الدولة في اليمن القديم:
لليمن تاريخٌ موغلٌ في القِدم, وتؤكد الدراسات التاريخيّة والأركيولوجيّة (الأثريّة) على أن الإنسان قد استوطن هذه الأرض منذ ما قبل التاريخ, حيث اكتشف العلماء آثار وبقايا عظميّة تعود إلى إنسان العصور الحجريّة (Homo Sapiens). وقد كشف العلماء عن خصوصيّة يمنيّة تمثلّت في تقنيّة صنع الأسلحة الحجرية, وتقنيّات أخرى تعود إلى العصر الحجري الحديث.[7]
ومع اكتشاف الزراعة التي مثلت قفزةً مَهولة في تاريخ البشريّة, نشأتْ التجمّعات الإنسانيّة المستقرة في قرى زراعية صغيرة في شكل تجمّعات عشائريّة, ثم تطوّرت وتوسّعت ونشأت تحالفات بين عدة عشائر, تولّى زعماؤها مهام إدارة شؤونها العامة, ومن ثمّ حدثتْ سلسلة من التطورات التكنيكيّة والتنظيميّة خلال مدة زمنية معينة. وقد مثلّت جملة هذه التطورات الإرهاص الموضوعيّ لنشوء الدولة اليمنية القديمة في مُستهلّ القرن العاشر قبل الميلاد.
منذ ذلك الحين حتى نهاية الربع الأول من القرن الرابع الميلادي, ظهرت عدة دول في اليمن في منطقتين جيوسياسيتين, هما:
المنطقة الجيوسياسية الأولى: مناطق الوديان, ونشأتْ فيها الدول الآتية:
سبأ, عاصمتها الأولى: صرواح, والثانية: مأرب, وقامت على ضفاف وادي ذَنْة أو أَذنة, واستمرت منذ القرن العاشر ق.م حتى 115 ق.م.
حضرموت, عاصمتها: شبوة, قامت على ضفاف وادي عَرَمة, وامتدت منذ القرن الخامس ق.م حتى القرن الرابع الميلادي.
مَعين, عاصمتها: قرناو, قامت على ضفاف وادي مُذاب, واستمرت منذ القرن الخامس ق.م حتى القرن الثاني ق.م.
قِتْبان, عاصمتها: تَمْنّع, ثم هجر بن حميد, قامت على ضفاف وادي بيحان, واستمرت منذ القرن الخامس ق.م حتى القرن الثاني الميلادي.
أوسان, عاصمتها: مَسوّرة, وقامت على ضفاف وادي مَرَخة, ويُعتقد أنها ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد ولم تدم طويلاً.
المنطقة الجيوسياسية الثانية: المرتفعات الجبلية:
نشأتْ الدولة الحميريّة على سفح جبل ريدان, وكانت عاصمتها ظِفار, وامتدت منذ (115ق.م – 5 25م), حيث سقطت على يد الغزاة الأحباش, وهي آخر دولة يمنية قديمة قبيل ظهور الإسلام.
الفيدرالية في اليمن القديم:
تأسستْ الدولة اليمنية القديمة من اتحاد قبائلي وفق مفهوم القبيلة المستقرة الزراعية وليس القبيلة البدوية المتنقلة.[8] ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن القبيلة في اليمن تحمل خصوصية تنفرد بها, وهي أنها لا تقوم على قربى الدم فقط بقدر ما تقوم ــــ أيضاً ــــ على المصالح الدنيوية المشتركة لأبنائها.
انعكس كل هذا كان في شكل نظام الحكم السياسي والتنظيم الإداري للدولة في اليمن منذ القدم, ولا يزال تأثيره قائماً حتى الوقت الحاضر.
فقد ساد نظام الحكم الملكي في الدول اليمنية القديمة, وعلى الرغم من ذلك, كانت سلطة الملك مقيّدة. فقد شاركه في إدارة شؤون الحكم مجلس يسمى (المزاود) ويتكوّن من الكُبراء (الأقيال) وزعماء القبائل وكبار المُلاك. وكان هؤلاء يشاركون الملك السلطة, لاسيما في القضايا السيادية وإصدار التشريعات والقوانين الخاصة بالتملّك والضرائب وغيرها.[9]
وهو وضع خاص تميّزت به معظم الدول اليمنية القديمة دوناً عن بقية الدول المعاصرة لها. يقول د. جواد علي: ” لم يكن الملوك في العربية الجنوبية أو في العربية الغربية [يقصد اليمن] ملوكاً مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في إدارة الدولة على نحو ما يريدون, ولكن كانوا ملوكاً يستشيرون الأقيال والأذواء وسادات القبائل والناس وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله, واتخاذ قرار بشأنه. وهو نظام تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب (الديمقراطية) بالقياس إلى حكم الملوك المطلقين الذين حكموا آشور وبابل ومصر وإيران.”[10]
إذن اتسم نظام الحكم بوجود “سلطة تشريعية شوروية وإن كانت تصدر التشريعات باسم الملك الذي يأخذ زمام المبادرة فيها ويتولى غاية تطبيقها ومعاقبة مخالفيها. فالملك لا ينفرد باتخاذ القرارات”.[11]
ويأتي النص القرآني ليؤكد ذلك: ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) [سورة النمل/32]
هذا بالنسبة لإدارة السلطة, فماذا عن التنظيم الإداري للدولة؟؟
يذهب د. محمد عبدالقادر بافقيه إلى أن الممالك اليمنية القديمة كانت تقوم على أساس اتحادي, حيث ساد “نظام القيالة”, وهو نظام حكم محلي يقوم على أساس اتحادي أو شبه اتحادي يتمتع فيه الأمراء المحليون باستقلال ذاتي.[12]
وكان يُطلق على هؤلاء الأمراء ـــ في الغالب ـــ لقب الأقيال (المفرد: القَيْل). ويتولى القيل تدبير شؤون المخلاف الذي يتكون من عدة محافد.
ويدير المحفد كبير المحفد, ويُلّقب ب (ذو) متبوعاً باسم المكان, فيقال مثلاً: ذو غمدان: أي صاحب غمدان, وذو معين: أي صاحب معين, وتُعرّف هذه الطبقة بالأذواء.[13]
وعرفت الدولة في اليمن القديم فصلاً واضحاً بين اختصاصات السلطة المركزية, واختصاصات الوحدات الإدارية الأدنى. فقد كان لرؤساء الوحدات الإدارية الأدنى: المخاليف والمحافد اختصاصات ومهام ضمن الإطار الجغرافي المحدد. فقد توّلوا مهام الإشراف المباشر على إقامة المرافق الاقتصادية العامة المتمثلة في آلاف السدود والطرقات والقلاع والحصون والأسواق والمخازن وغيرها, ويقتصر دور الدولة المركزية على الاشراف والدعم والتخطيط الفني.[14] فضلاً عن وجود تشريعات خاصة بالمخاليف.[15]
أما المستوى الأعلى فقد كان يختص بالمهام السيادية, إذ يتولى الملك “المهام الرئيسية الكبرى التي تتعلق بتماسك المملكة وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية الخارجية.”[16]
يتضح مما تقدم بأنّ نمط التقسيم الإداري للدولة وأسلوب توزيع السلطة في اليمن القديم يشبه إلى حد كبير النظام الفيدرالي المعاصر. من حيث اشتمال التقسيم الإداري للدولة اليمنية القديمة ثلاثة مستويات إدارية:
المستوى الأدنى: المحفد, ويحكمه (ذو…), وهو يشبه الولاية أو المقاطعة ـــبلغة اليوم ـــ التي يحكمها والي أو محافظ الولاية. ويتولى مهام سياسية واقتصادية في الإطار الجغرافي للولاية.
المستوى الوسيط: المخلاف, ويحكمه القيل, وهو يماثل الاقليم الذي يحكمه حاكم الاقليم. ويتولى مهام سياسية واقتصادية في إطاره الجغرافي المحدد.
المستوى المركزي: ويتربع على رأسه الملك, الذي يمارس صلاحيات ومهام سيادية, تماماً مثل صلاحيات ومهام الرئيس في الدولة الفيدرالية.
إنّ هذا الأسلوب في إدارة الدولة وشؤون الحكم لم يأتِ من فراغ, إنما كان نتاج الأحوال الطبيعية للبلاد وتضاريسها التي لم تكن لتسمح في ظروف ذلك العصر بقيام حكم مركزي مباشر حتى مع وجود قوة ذات وزن كبير كقوة سبأ مثلاً خلال قرون عدة. فقد أدت تلك الأحوال الطبيعية إلى قيام تجمعات متفرقة تسمى في النقوش الحميرية (شعوب) يحكم معظمها إن لم يكن كل واحد منها في المراحل المبكرة حاكم محلي.[17]
الهوامش:
[7] بتصرف: د. عبدالرحمن عمر السقاف, تطور المعرفة التاريخية عن حضارة اليمن قبل الاسلام, مركز عبادي للدراسات والنشر, صنعاء, ط1/ 2005م, ص345.
[8] ينظر: د. يوسف محمد عبدالله, أوراق في تاريخ اليمن وآثاره, دار الفكر المعاصر, بيروت, ط2/1990م, ص54.
[9] راجع: د. جواد علي, المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام, ج5, دار العلم للملايين, بيروت, ط2/1986م, ص215.
[10] د. جواد علي, ج5, ص213.
[11] د. يوسف محمد عبدالله, ص 54.
[12] بتصرف: د. محمد عبدالقادر بافقيه, في العربية السعيدة دراسات تاريخية قصيرة, مركز الدراسات والبحوث اليمني, صنعاء, ط1/ 1993م, ص80.
[13] ينظر: سعيد عوض باوزير, معالم تاريخ الجزيرة العربية, مؤسسة الصبان, عدن, ط1/1966م, ص36.
[14] بتصرف: د. حمود العودي, المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي ـــ دراسة عن المجتمع اليمني, ط2/ 1989م, ص66.
[15] راجع: د. جواد علي, ج5, ص215.
[16] محمد عبدالقادر بافقيه, ص94.
[17] بتصرف: المرجع نفسه, ص75 – 76.