كتب/ بشرى العامري:
تمر علينا الذكرى الخامسة والثلاثون للوحدة اليمنية هذا العام، والوطن لا يزال ممزقاً بين سلطات أمرٍ واقع، وصراعات سياسية وعسكرية تهدد ما تبقى من الحلم الكبير الذي تحقق في 22 مايو 1990، في ظل غياب السلطة الشرعية عن الحسم والسيطرة بشكل كامل على الأرض واهتمامها بمشاريع أخرى بعيدة عن الميدان.
وبينما يستحضر اليمنيون هذا الحدث التاريخي، تطفو على السطح مفارقة لايدركها سواهم أن جماعة الحوثي، التي ترفع شعارات وطنية وتدّعي الدفاع عن السيادة، هي أكثر الأطراف التي تعمل على الانفصال وتدمير المشروع الوحدوي للبلاد.
فمنذ أن سيطرت جماعة الحوثي بالقوة على العاصمة صنعاء في 21 من سبتمبر 2014، بدأت ملامح مشروعها الانفصالي تتكشف شيئاً فشيئاً، ليس فقط كمجرد انقلاب على السلطة الشرعية، بل كمشروعٍ سياسي ومذهبي قائم على التفرد بالحكم، ورفض التعددية، وإنشاء سلطة مغلقة على نفسها، لا تمت للدولة الوطنية بصلة.
ففي الوقت الذي يتغنى فيه الحوثيون بالوطن، هم يمارسون فعلياً ما يناقض جوهره، حيث أسسوا سلطة موازية بكل تفاصيلها: وزارات، أجهزة أمنية، نظام تعليمي وإعلامي خاص، وحتى منظومة قضائية تأتمر بتوجيهاتهم، لا تتبع الدولة اليمنية ولا تعترف بها، وهذا الكيان الذي بنوه داخل اليمن هو انفصال مكتمل الأركان، لكنه يتخفى تحت عباءة الوطنية، ويمارس التمزيق باسم الوحدة.
والأكثر خطورة أن الجماعة لا تكتفي بالسيطرة الجغرافية، بل تسعى إلى إعادة تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع، عبر فرض خطاب طائفي دخيل، يضرب فكرة الانتماء الوطني المشترك، ويعزز الانقسام المذهبي والمناطقي.
وتحوّلت المدارس إلى منصات لغرس أفكار الجماعة، وتغيّرت المناهج لتخدم مشروعها الخاص، في ضرب متعمد لهوية الجمهورية اليمنية التي تشكلت بعد الوحدة.
اقتصادياً، يتعامل الحوثيون مع موارد المناطق التي يسيطرون عليها وكأنها غنيمة حصرية، يرفضون توريد الإيرادات إلى البنك المركزي في عدن، ويصادرون المعونات والمساعدات الإنسانية، وذهبوا إلى أبعد من ذلك بفرض واقع نقدي مزدوج، تمثّل في رفضهم تداول الطبعة الجديدة من العملة الوطنية الصادرة عن البنك المركزي في عدن، المعترف به دولياً.
وأصدر الحوثيون تعميماً يمنع تداول هذه الطبعة في مناطق سيطرتهم، واعتبروها “مزورة”، في حين يتم التعامل بها في المناطق المحررة.
هذا الإجراء أدى إلى نشوء نظامي نقد منفصلين داخل البلد الواحد، ما خلق تشوهاً اقتصادياً خطيراً، وأسهم في مضاعفة الأعباء على المواطنين، حيث اختلفت أسعار الصرف والسلع والخدمات بين شطري البلاد، وتعقّد النشاط التجاري بين المحافظات، وتعرّض الموظفون والمتقاعدون لحرمان إضافي من مستحقاتهم نتيجة هذا الانقسام النقدي.
وعمّق هذا الانقسام المالي حالة الانفصال الاقتصادي العملي، ورسّخ شقاً واضحاً بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين والمناطق المحررة، الأمر الذي لا يهدد فقط الوحدة الاقتصادية لليمن، بل ينسف أسس الدولة المركزية، ويكرّس الانفصال على أرض الواقع دون إعلان سياسي مباشر.
أما على المستوى السياسي، فلا تعترف الجماعة بأي مبدأ للشراكة، وتتعامل مع بقية القوى اليمنية باعتبارهم خصوماً أو أعداء.
الحوار الوطني، والمبادرات الأممية، ومشاريع السلام كلها مرفوضة ما لم تضمن للجماعة التفرد والهيمنة. هذا الإقصاء المطلق يعكس جوهر المشروع الحوثي القائم على الانغلاق والانفصال، لا على الدولة أو الوحدة.
حتى على المستوى المجتمعي، مارست الجماعة نوعاً آخر من الانفصال، إذ عمدت إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، وقسّمت المجتمع إلى فئات حسب الولاء، وعاقبت المختلفين معها بالاختطاف، والتعذيب، والفصل من الوظائف، ومصادرة الممتلكات.
وفي مناسباتها الدينية والسياسية، تستعرض الجماعة حضورها ككيان مستقل، له رموزه وشعاراته ونظامه، في مشهد أقرب إلى الإعلان غير المعلن بالانفصال.
وإذا كانت بعض الأطراف في اليمن تنادي بانفصال جغرافي لأسباب سياسية أو تاريخية، فإن جماعة الحوثي تمارس انفصالاً شاملاً جغرافياً، ثقافياً، مالياً، وأيديولوجياً. والأسوأ من ذلك أنها تصادر مفهوم الوطن لتبني عليه كياناً لا يعترف بالمواطنة، ولا بالدولة، ولا حتى باليمن كما عرفه أبناؤه عبر التاريخ.
في الذكرى الخامسة والثلاثين للوحدة اليمنية، يبدو أن الخطر الأكبر على مشروع الوحدة لا يأتي من الدعوات الانفصالية المعلنة هنا أو هناك، بل من الممارسات الانفصالية المقنّعة، التي تتغلغل في مؤسسات الدولة والمجتمع، وتعمل بصمت على تمزيق اليمن من الداخل.
والحوثيون اليوم دون مواربة هم رأس هذا المشروع الانفصالي، وإن رفعوا شعار “الوطن” على كل جدار.