بلال الطيب :
بخروج المماليك من صنعاء أواخر العام «923هـ» دانت معظم مناطق «اليمن الأعلى» عدا صعدة للإمام شرف الدين، الذي بدوره استغل مساندة القبائل له، ووجه في العام التالي ولده «المطهر» ذو الـ «16» عاماً لمحاربة بقايا الطاهريين، نجح الأخير في السيطرة على «ذمار، ويريم، ورداع»، وأخرب عدد من الحصون والقلاع، ونهب مكتبة السلطان عامر العامرة بآلاف المُصنفات.
في العام «934هـ» خرج أهالي «خولان» عن طاعة الإمام شرف الدين، فأحضر «المطهر» ثمانين طفلا من رهائنهم المُحتجزين لديه، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وحين قام أحدهم بإحراق أحد الأبواب الخشبية لصنعاء، خرج إلى ذات القبيلة بجيش كبير، دمر المنازل، وقطع الأشجار، وقبض على «300» رجل، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
بعد أكثر من «15» عاماً من الحروب والصراعات بينه وبين الأشراف «الحمزات» و«آل المؤيدي»، نجح الإمام شرف الدين في السيطرة على مناطق شمال الشمال، وتسنى له بداية العام «940هـ» دخول صعدة.
غادر «الحمزات» صعدة، وجيشوا من «وائلة، ويام، ووداعة» أكثر من «15,000» مقاتل، ودارت بينهم وقوات «المطهر» معركة كبرى، عُرفت بواقعة «المخلاف»، هزموا فيها، وسقط منهم «1,000» قتيل.
اشتهر «المطهر» بجبروته وقتله للأسرى بصورة مُريعة في أكثر من واقعة، وذكر المؤرخين أنه قام بعد تلك المعركة بحز رأس «600» أسير، وقد مدحه لذلك أحد الشعراء:
ألف من القتلى ظلت خيلنا
ترعى السنابك منهم اللمات
موتاهم قد عاينوا مثواهم
في النار والأحياء كالأموات
فاجز المطهر يا إله الخلق عن
دين حماه بأجزل الحسنات
يا آل حمزة كم نرى غفلاتكم
عن رشدكم ما أقبح الغفلات
استغل الأمير الطاهري عامر بن داؤود الطامح حينها لاستعادة دولة آبائه، استغل توجه الإمام شرف الدين شمالاً، فأرسل جنوده للهجوم على الأطراف الجنوبية لـ «الدولة الزيدية»، مُستفيداً من انضمام الأمير يحيى السراجي إلى صفه؛ بل وصير الأخير قائداً لإحدى حملاته.
سيطر «السراجي» على «رداع»، ثم «موكل»، وهناك باغته «المطهر» بجيش جرار «14 ربيع الآخر 941هـ»، هزمه شرَّ هزيمة، وقتل «300» جندي من أصحابه، واقتاده و«2,300» أسير إلى ساحة الإعدام.
أمر «المطهر» جنوده بحزَّ رأس «1,000» من الأسرى، حتى اغتمرت حوافر بغلته بالدم، ثم أجبر من تبقى بحمل الرؤوس الدامية إلى صنعاء، ليأمر فور وصوله باحة قصر والده بإلحاقهم بزملائهم، وفي ذلك قال يحيى بن الحسين: «ولما وصلت الأسارى والرؤوس إلى المقام الإمامي المحروس، وجه الإمام ببعضها إلى صعدة.. فعظم شأن هذه القضية في النفوس، وإنفاذ النافر الشموس، وقيلت فيها الأشعار الرائعة، والمدائح الفائقة».
وللشاعر المطهر الحمزي قصيدة طويلة في تلك الواقعة، جاء فيها:
يا وطية وطى الإله بموكل
أنحت على حزب الضلال بكلكل
طحنتهم طحن الرحى بثقالها
أو طحن طود هدَّ أرض من عل
حتى أحان الله أعداء الهدى
يحنون بين مجدل ومكبل
توجه «المطهر» بعد ذلك صوب «اليمن الأسفل»، مُتذرعاً بملاحقة بقايا الطاهريين، مُبيحاً لجحافله نهب كل ما يصادفهم من أموالٍ ومواشٍ وزروع، مُسيطراً على إب وتعز «شعبان 941هـ»، محاولاً بـ «20,000» مقاتل السيطرة على زبيد «943هـ»، إلا أنه مني في أحراشها بهزيمة ماحقة، نكل المماليك به وبعساكره، وأصابوه إصابة بالغة، أختل بسببها قوامه، وأضحت الإمامة محرمة عليه.
وفي مطلع العام «945هـ» قاد «والي مصر» الثمانيني سليمان باشا حملة عسكرية كبرى إلى الهند، عرج على عدن بأوامر من السلطان سليمان القانوني، وقتل غدراً الأمير «عامر»، وذكر «الموزعي» أنه قتله بوشاية من الإمام شرف الدين وولده «المطهر»، اللذان راسلاه واتهما ذات الأمير بالتحالف مع البرتغاليين.
جعل سليمان باشا على عدن بهرام بيك، ثم أكمل مسيره، ليعود أدراجه منتصف العام التالي خائباً، مُتماً سيطرته على معظم الموانئ اليمنية، مُتذرعاً بحمايتها والأراضي المُقدسة من خطر البرتغاليين المتحالفين حينها مع «الدولة الصفوية» بإيران، مكملاً مسيره إلى «استانبول»، ليخلفه على اليمن أويس باشا.
امتدت سيطرة الإمام شرف الدين إلى «جازان، وأبي عريش»، قسم ما تحت يديه بين أولاده «948هـ»، مُوجهاً بذكر اسمائهم في الخطبة بعد اسمة، وما هي إلا أشهر معدودة حتى أستعر الخلاف بينهم، أنحاز «الأب» لصالح ولده الأصغر شمس الدين علي، مُتحمساً لتوليته الإمامة، كون ولده الأكبر «المطهر» غير مستوفٍ شروطها.
أعلن «المطهر» تمرده، راسل أويس باشا في زبيد طالباً المساندة، وكتب في ليلة واحدة «80» كتاباً إلى قبائل اليمن حثهم فيها على المخالفة، ثم وجه جنوده إلى «الجراف» لمحاصرة والده «953هـ»، خلعه عن الإمامة، وفرغه للعبادة، وأصبح الحاكم الفعلي، تلقب بـ «الناصر»، وصك العملة باسمه، وصار «الإمام الأعرج» في سابقة لم تشهدها الإمامة الزيدية من قبل.
في نهاية ذات العام، وفي صبيحة يوم عيد الأضحى دخل أُوَيس باشا مدينة تعز، متجاوزاً التحصينات التي سبق لـ «المطهر» أن استحدثها، أرفد ذات الوالي قواته بعسكر محليين فكانت نهايته نهاية العام التالي على أيديهم، وهو في طريقه إلى صنعاء، وقيل أن قاتله من بني جلدته، ويدعى «بهلوان»، وقد خلفه على ولاية اليمن أزدمر باشا.
استغل الأتراك تجدد الخلاف بين «المطهر» وأخيه شمس الدين وتوغلوا شمالاً، ليدخلوا صنعاء منتصف العام «955هـ»، بقيادة أزدمر باشا، وبطلب ومعاونة من الأمير المتمرد، الذي أستمر بدعم من أبيه مسيطراً على بعض الحصون، موالياً للأتراك.
انسحب «المطهر» إلى «ثُلا»، وفيها تحصن، ثم وقَّع مع «أزدمر» معاهدة صلح، لم تستمر طويلاً، تجددت الحرب، واستمرت سجالاً، وقيل أنها وصلت لحدود «40» واقعة، حتى جيء بـ مصطفى باشا المعروف بـ «النشار» والياً على اليمن «958هـ».
في ذات العام، أعلن من «الطويلة» صلاح بن أحمد تمرده، ثم ما لبث أن آثر هو وأصحابه الاستسلام، وكان جزاؤه أن ضرب «المطهر» عنقه، وأمر بأن تبقى جثته في العراء، أما أصحابه فقد ربطت أرجلهم على الجمال، وسحلوا على وجوههم، حتى تمزقت أجسادهم، وتناثرت أشلائهم في الطرقات.
بدأ «النشار» عهده بمراسلة «المطهر»، حثه على الموالاة، وحين أبي أرسل إليه بجيش كبير بقيادة أزدمر باشا، حاصره الأخير في «ثلا» مدة، ثم آل الأمر إلى الصلح، عاد «النشار» إلى «الاستانة»، وعاد «أزدمر» لإكمال مهامه، دخل صعدة سلما «960هـ»، ودانت له اليمن حتى جازان.
في ذات العام، أعلن الحسن بن حمزة نفسه إماماً، تلقب بـ «المهدي»، وكان كأسلافه «الحمزات» ضعيفاً قليل الأنصار، استقر بـ «الأهنوم» مدة، استأمنهم على زكاته، وخرج لبعض المشاغل، ليجدهم بعد عودته قد استهلكوا أمواله، وتنكروا لعشرته، فعاش فقيراً معوزاً لا يأكل إلا أوراق الشجر، وزاد من مصيبته مطاردة «المطهر» له، وتدميره منزله، ليصطلحا بعد ذلك، أعمر له الأخير منزلاً، وأجرى له كفايته حتى وفاته «961هـ».
في أواخر ذات العام، تم عزل أزدمر باشا، وجيء بـ «النشار» مرة أخرى، توفى الأخير بعد وصوله اليمن بعدة أشهر، فجيء بالوالي العادل مصطفى عزت، أمر الأخير بحذف «حي على خير العمل» من الأذان، ولم يحصل بينه و«المطهر» أية حروب.
بالعودة إلى الإمام شرف الدين، فقد استقر بعد عزله في «الظفير»، وفيها توفي «965هـ»، عن «88» عاماً، ودفن بجوار جده «المهدي»، أصابه أواخر عمره العمى، وشاهد أفول دولته، وعاش بعد أن تخلى أقرب الناس عنه على الصدقات.
عُزل مصطفى عزت «967هـ»، فحل محمود باشا محله، ويعد الأخير من أسوأ الولاة وأكثرهم فساداً، استمرت ولايته لأربع سنوات، جيء بـ رضوان بن مصطفى عزت بدلاً عنه، تجددت في عهد الأخير الحرب، ثم آل الأمر إلى الصلح، وبموجبه ظم «المطهر» إلى حكمه عدة مناطق، الأمر الذي أنعش مطامعه للتمدد أكثر، وقد جاءت الرياح بالفعل بما تشتهي سفنه.
اتسم التواجد التركي في تلك الفترة بعدم الاستقرار، بسبب كثرة الولاة، وخلافات القادة، وتمرد العسكر، الأمر الذي جعل الدولة تبدو بمظهر الضعف، زالت هيبتها، وزادت التمردات القبلية عليها، حاول «الباب العالي» إصلاح الوضع مقسماً اليمن بداية العام «974هـ» إلى إقليمين: «تهامة» وعاصمته زبيد، بقيادة مراد باشا، و«المناطق الجبلية» وعاصمته صنعاء بقيادة رضوان باشا، أما عدن وتعز فقد كانتا تابعتان للإقليم الأخير.
استعر الخلاف بين «مراد» و«رضوان»، عُزل الأخير، فانسحب نهاية ذات العام بقواته من صنعاء إلى «الاستانة»، فيما توجه الأول بجيش كبير شمالاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مني في ذمار بهزيمة ماحقة، انسحب على إثرها إلى «بعدان»، وهناك تعرض لكمين، حزَّ أنصار «المطهر» رأسه، وأرسلوه هدية لإمامهم المُحاصر لصنعاء.
أرسل «المطهر» بالرأس الدامي إلى الأتراك المُحاصرين، فما كان منهم إلا أن رفعوا مطلع العام التالي راية الاستسلام، سقطت صنعاء، وصارت باقي البلاد سهلة المنال، وجه الإمام قواته «جنوباً، وغرباً، وشمالاً»، سقطت «تعز، ثم عدن، ثم جيزان»، فيما انحصرت سلطة الأتراك في زبيد وما حولها من مناطق تهامة، وأرسل «الباب العالي» بـ حسن باشا والياً، ثم أتبعه بـ عثمان بن أزدمر باشا.
حاول علي بن الشويع عامل «المطهر» على تعز السيطرة على زبيد بداية العام «976هـ»، إلا أنه مني بهزيمة نكراء، خسر فيها «300» من عساكره، الأمر الذي حفز أهالي الحجرية على التمرد بقيادة أحمد بن عبدالوهاب الحجري، ليستعيد الأتراك مدينة تعز في «شعبان» من ذات العام، فيما تحصن من تبقى من عساكر «المطهر» في قلعة القاهرة، وتكريماً للأهالي الذين تعاونوا معه، جعل عثمان باشا مدينتهم بيت من بيوت السلطنة، وليس عليهم «بدعة، ولا مضرة، ولا ضيفة، ولا سخرة».
ما أن سقطت مدينة تعز حتى استشعر «المطهر» بالخطر، حشد الحشود، وأرسل المدد تلو المدد اسناداً لابن أخيه محمد بن شمس الدين المرابط حينها في «الجندية العليا»، وفي ذلك قال صاحب «روح الروح»: «ولما علم المطهر بهذه الحادثة العظيمة، والكادحة الجسيمة، شنَّ الغارات من جميع الجهات، واستصرخ العرب، وانتخب للقتال كلّ بيهس أغلب، وضمهم إلى محمد بن شمس الدين ومن لديه».
تصدى عثمان باشا ببسالة لتلك الزحوفات، بمساندة مائزة من قبل أهالي جبل «صبر»، فكانت هزيمة عساكر «المطهر»، وفي ذلك قال ذات المؤرخ: «فجمع عثمان عسكره وخيله، واشتد بحبله وحوله، فما شعر محمد بن شمس الدين إلا بهزيمة من في الحصن ـ قلعة القاهرة ـ من عساكر الزيدية، بعد أن قتل منهم عدة في تلك العزمة، وأول الصدمة، وخالف عليه أهل جبل صبر، ورمي بيوم نحس مُستمر».
في تلك الأثناء، جهز الأتراك حملة عسكرية كبرى بقيادة الوزير الأعظم سنان باشا «والي مصر»، وقد استطاع الأخير خلال فترة وجيزة من استرداد أغلب المناطق اليمنية حتى صنعاء، وفي عدن سبق لـ قاسم بن الشويع عامل «المطهر» عليها أن تحالف مع البرتغاليين لصد الأتراك، إلا أنَّ محاولاته باءت بالفشل، وكان مصيره الموت.
بعد أن يأس من الفتك به، صالح سنان باشا «المطهر»، واعترف به حاكما عل بعض المناطق الشمالية، كما عمل على إصلاح ما أفسده أسلافه، كسب ولاء اليمنيين، وأبرز صورة مشرفة لـ «الدولة العثمانية»، وبُنيت خلال تلك الفترة المساجد والمدارس، وجعلت الوقفيات الكثيرة عليها، وصرفت المعاشات للفقهاء ورجالات العلم.
توزعت الانجازات «العثمانية» لتشمل أغلب مناطق اليمن، وكان اهتمامهم بتعز أكثر من غيرها، فهي حد وصفهم «بستان الصالحين»، والموروث الصوفي حافل بالإشادة والتقديس لذلك التواجد، يقول أحد الشعراء:
وما يمن إلا ممالك تبع
وناهيك من ملك قديم ومن فخر
تملكها من آل عثمان إذ مضت
بنو طاهر أهل الشآمة والذكر
فهل يطمع الزيدي في ملك تبع
ويأخذه من آل عثمان بالمَكر
بعد مضي عامين من تواجده في اليمن، توجه سنان باشا إلى تونس فاتحاً ونصيراً لأهلها ضد زحوفات الأسبان، وقد سبق مغادرته إرسال «الباب العالي» بـ بهرام باشا بدلاً عنه، كان الأخير بطاشاً عنيفاً، وقد استمرت ولايته لثلاث سنوات.
لم يسلم من ظلم الطاغية «المطهر» حتى أقرب الناس إليه، عزل أبيه، وحارب إخوته، وحبس بنيه، وفيه قال الشاعر حسن بن إدريس:
ماذا نظن بمن الوى بوالده
حتى أقر له بالطوع والقود
وحاز اخوته قهراً فأوردهم
ببطشه مورد الأحزان والنكد
نعم وأولاده في السجن خلدهم
لما طوى قلبه القاسي على الجلد
وكل أملاك هذا القطر دمرهم
وصال في الكل منهم صولة الأسد
انتهت بوفاة «المطهر» منتصف العام «980هـ» إمامة أسرة «شرف الدين»، ولم يستطيعوا النهوض من جديد رغم عدة محاولات يائسة، سيطر أبنائه على عدد من الحصون، لطف الله «حصن ذي مرمر»، وغوث الدين «حصن غفار»، وعبدالرحيم «حصن مبين»، أما حصني «ثلا» و«كحلان»، فقد كانا تحت سيطرة علي بن يحيى بن المطهر، والحسن بن شرف الدين.
دارت بين الأخوة الأعداء حروب وخطوب، كان الناصر بن المطهر أحد ضحاياها، وقد عبر عن ذلك أحد الشعراء:
وتفرقوا شعباً فكل قبيلة
فيها أمير المؤمنين ومنبر