على الرغم من التحذيرات من تفشي فيروس كورونا المستجد، أصر المواطنون العاديون في اليابان والصين، على الاحتفاء بتفتح أزهار الكرز أو الساكورا .
وخرج اليابانيون إلى المتنزهات والحدائق بأعداد كبيرة لمشاهدة أشجار الكرز بعد تفتح أزهارها في كرنفال رائع باللونين الأبيض والزهري.
وتوافد عشرات الآلاف من المتنزهين المتنزهات والحدائق والمعابد فضلًا عن المدارس والشوارع، مرتدين الأقنعة كما هو الحال عادة في موسم الربيع في اليابان بسبب الحساسية على الطلع، خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى المتنزهات ملتقطين الصور أمام أغصان الأشجار العارية التي شهدت انتشارا سريعا للأزهار باللونين الأبيض والزهري.
رقص العمات
وحرص الصينيون على نفس الأمر لكن ليس بنفس درجة القداسة، فقد كان ذلك في إطار خروجهم لممارسة الرياضة و” رقص العمات ” وهي طريقة رقص تقليدية تشبه “الأيروبكس” على أنغام الموسيقى، كما حرص بعض الناس في اليابان، على تناول الطعام في الطبيعة رغم نصائح السلطات الإحجام عن هذا التقليد خلال السنة الحالية.
الساكورا
أزهار الكرز هي أوراق صغيرة وردية اللون، تعتلي شجرة طويلة تجاور مثيلاتها، تحول الطرقات إلى لوحة طبيعية مرسومة تشعرك بالسلام النفسي بمجرد رؤيتها، والتمعن في النظر إليها أو حتى المرور بجوارها، فهي أشجار نادرة الانتشار، إلا أن سكان اليابان يحظون بوجودها على أراضيهم، وتقديرا لها أقاموا مهرجانا سنويا للونها الوردي الفريد، يطلق عليه لقب ” مهرجان هانامي ” ويبلغ عمرها في اليابان أكثر من ألفي عام.
زهرة السلام
وكانت شجرة الكرز رقيقة سببًا في زرع السلام بين الصين واليابان بعد سنوات من النزاع والخلاف بين الجارتين، لكي تشكل جذور المصالحة بين البلدين، فبعد هدوء الحرب بين اليابان والصين.
وأهدت طوكيو بكين ما يقارب ألفي شجرة من أشجار الكرز، بهدف كسر الحواجز بينهما، لتكون سببا في السلام ولم شمل البلدين، وبعد 10 أعوام أهدت اليابان ما يقارب 5000 شجرة ساكورا لتوثيق الصداقة القائمة بين الدولتين وتقوية علاقة الشعب الياباني بالشعب الصيني.
وبمرور السنين ومع ارتفاع درجات الحرارة، نمت وازدهرت أزهار الكرز بالصين لتجذب وتخطب الأنظار وتذيب الجليد بين البلدين، بعدما أصبح الاحتفال بها تقليدًا مشتركًا يعبر فيه الناس عن فرحتهم بانقضاء أيام البرودة والجليد ويستقبلون أزهار الربيع، فقد تناست الأجيال الجديدة ما حدث في زمن الأجداد من حروب وخلافه ودشنوا عصرًا جديدًا من السلام والمحبة، ولعل دليل ذلك استقبال اليابان قرابة 300 مليون سائح صيني سنويًا والعكس تستقبل الصين سائحين يابانيين.
محاربي الساموراي
زهرة الكرز لم تكن فقط زهرة طبيعية نمت في بلاد الشمس المشرقة منذ ألفي سنة، فقد ارتبطت بالشخصية اليابانية عبر التاريخ وظهرت في الإبداعات الفنية والثقافية وحتى سلوك الناس، فقد استخدمها الجنود قديما من محاربي الساموراي في التحلي بالقوة والاعتزاز بوطنيتهم لبلادهم.
كانت الحكومة تشجع الناس على الإيمان بأن المحاربين الفدائيين الذين قتلوا في المعارك دفاعًا عن الوطن تتجسد أرواحهم في أزهار الكرز التي لا زالت وستظل رمزًا لجمال الطبيعة اليابانية.
أهل ووهان يحتفلون
رغم أن مدينة ووهان الصينية بمقاطعة “خبي” مصدر انتشار وباء كورونا ، إلا أن المواطنين استغلوا استقرار الأوضاع ووصول أعداد الإصابات اليومية إلى الدرجة “صفر”، وخرجوا إلى الحدائق والمتنزهات لاستقبال الربيع ومشاهدة تفتح أزهار الكرز .
في الوقت نفسه ممارسة التقليد اليومي الذي يحرص عليه معظم الصينيين وهو ممارسة الرياضة وتمرينات اللياقة البدنية سواء بشكل منفرد أو جماعي من خلال ” رقص العمات “، والأمر نفسه كان في محافظة نانتشانغ بمقاطعة جيانغشي شرقي البلاد
مهرجان في شانغهاي ويونان
وفي مارس العام الماضي، نظمت الحكومة الصينية بمقاطعة يونان مهرجان لزهور الكرز استمر شهر كامل في حديقة حيوان “كونيمينج”، وهي الحديقة التي تضم أكثر من 5 آلاف شجرة من أشجار الكرز والتفاح المزدهرة.
في نفس الفترة نظمت بلدية شانغهاي نفس المهرجان في حديقة “جوسون” التي تشمل أكثر من 12000 شجرة أزهار الكرز من 82 نوعا مختلفا، إلا أن تلك المهرجانات لم يتم تنظيمها هذا العام في ظل ظروف تفشي وباء كورونا .
الأرصاد الجوية تتابع
في اليابان، رصدت وكالة الأرصاد الجوية اليابانية عن كثب تفتح أزهار أشجار الكرز، وأعلنت الأسبوع الماضي بدء الموسم في طوكيو، وهو أبكر تاريخ حتى الآن منذ البدء بتدوين البيانات حول ازدهار أشجار الكرز في العام 1953، لكي تعطي إشارة بدء ذلك المهرجان الشعبي المبهج.
وقال ايتسو فوجيساوا وهو مواطن ياباني يبلغ من العمر 57 عاما في تصريحات لـ”الفرنسية” وهو يجول في متنزه اوينو المركزي في طوكيو “عدد الأشخاص أكبر مما توقعت. آتي إلى هنا في كل سنة. وأشعر بانزعاج إن فوتت هذه الفرصة”.
هشاشة الحياة
فيما حرص يوشيرو تاناكا وهو تاجر خضار، على تناول الطعام مع أصدقائه في الهواء الطلق رغم التوصيات بعكس ذلك، وقال للوكالة نفسها: “قيل لنا أن نمتنع عن ذلك لكني أردت أن أحتفل ولو لمرة واحدة” واصفا موسم “هانامي” بأنه “فرحة الربيع الفعلية”، متابعًا: “عادة نأتي في كل عطلة نهاية أسبوع في الموسم لكننا لن نفعل ذلك هذه السنة سوى مرة واحدة، اليوم فقط”.
ويرمز تفتح أزهار الكرز في الثقافة اليابانية إلى هشاشة الحياة وطابعها العابر إذ أن هذه الزهور لا تستمر سوى أسبوع واحد قبل أن تتناثر لتغزو أوراق خضراء نضرة أغصان الشجر، وفي المتنزه سالف الذكر عبقت حوالي 800 شجرة كرز بالأزهار الذي يشهد عادة خلال الربيع مجيء أعداد كبيرة من العائلات والأصدقاء وزملاء العمل لتناول الطعام فيه في الهواء الطلق، وتم نشر شريط على جانبي الممر الرئيسي فيه كتب عليها “ممنوع تناول الطعام”.
مرة واحدة على الأقل
في حي إيشغايا وفي شارع طويل مخصص للمشاة ومحاط بأشجار المركز يطل على قناة، دعت لافتة المتنزهين إلى “الامتناع عن تناول الطعام والمشروبات” تحت أشجار الكرز المزهرة، وطلبت اللافتة من المتنزهين أيضا “وضع الأقنعة عند الكلام والمشي”. لكن على مسافة قريبة جلست مجموعة من النساء الشابات من دون أقنعة ورحن يتناولن الطعام وكأن لا هم لهن.
وفي متنزه اوينو راحت مكبرات للصوت توجه رسائل تحذر من التجمعات فيما غابت حفلات تناول الطعام في الهواء الطلق التي تقيمها الشركات في هذا الموسم، لكن شوهدت مجموعات صغيرة أو أزواج يجلسون على مسافة قريبة من بعضهم البعض.
تراجع إيرادات هانامي
ويشكل الموسم مصدر إيرادات كبيرا للمتاجر والمطاعم التي تقدم أطباقا ومنتجات تتماشى مع ألوان الأزهار الصغيرة، خصوصًا وأن كثير من السياح عادة ما يخططون لعطلتهم لتتزامن مع توقعات تفتح هذه الأزهار، إلا أن انتشار فيروس كورونا المستجد عير الوضع مع تسجيل أكثر من ألف إصابة في البابان و41 حالة وفاة. وقد أغلق الكثير من المدارس أبوابها فيما طلبت شركات كبيرة من موظفيها العمل من المنزل، ويتوقع باحثون في جامعة كانساي في غرب اليابان، تراجعا بنسبة 40 % تقريبا في إيرادات المتاجر المتعلقة باحتفالات “هانامي” هذه السنة في اليابان.
قوة ناعمة
ويعتبر اليابانيون مهرجان “هانامي” فرصة للاسترخاء، والتمتع بمشاهد تفتحها، ومن تعظيمهم لها أصدرت اليابان عملة من فئة الـ100 ين تحمل نقش زهور الكرز أو الساكورا ، وتستخدم اليابان هذه الأزهار كقوة ناعمة لتعزيز وتقوية علاقتها بالدول الأخرى، ففي عام 1912، أهدت اليابان 3000 شجرة كرز للولايات المتحدة الأمريكية، للاحتفال بشعب البلدين وتنمية روابط الصداقة، و تم زراعة الأشجار في واشنطن، وجددت اليابان نيتها في عام 1956 بـ 3800 شجرة كرز إضافية.
ساكورا للأكل أيضًا
أوراق الساكورا ليست للزينة فقط، فقد استحدث اليابانيون وصفات طعام، فهي صالحة للأكل كما استخدموها في صنع الشاي الذي يقدم في حفلات الزفاف أو الموائد الرسمية، وتستخدم كمواد لتحضير الأطعمة في المطبخ الياباني، حيث تخلل الأزهار بالملح وتستخدم لإضافة نكهة على الحلويات اليابانية. كما يحضر نوع من المشروب الساخن بإضافة أزهار الساكورا في الماء المغلي بشكل يشبه الشاي ويقدم في حفلات الزفاف وغيرها من الاحتفالات.
وقد كان الاحتفال بموسم أزهار الكرز “ساكورا” مقتصرا على الأثرياء قبل قرون، ولكنه انتشر ليصبح عادة اجتماعية جميلة يقام خلالها مهرجان كبير تلبس فيه النساء الكيمونو الياباني الحريري الجميل بألوانه الزاهية محتفلين بقدوم الربيع وتفتح الأزهار الاستثنائية وكثيرا ما يجمع اليابانيون أزهار الكرز المتساقطة ويجففونها ويحتفظون بها عام بعد عام ،فقد ارتبطت أزهار الأشجار لديهم بمعنى الحياة وتجددها.
تعزيز الروح الوطنية
واستخدم هذا الطقس الاحتفالي أثناء الحرب العالمية الثانية لتعزيز الروح الوطنية عند الشعب الياباني ولتشجيع الجنود على الذهاب للحرب، وكانت كل الأغاني الوطنية تتغنى به.
وكانت الساكورا رمزاً محفزاً لليابانيين، فقد كان الطيارون اليابانيون يرسمون الساكورا على جوانب طائراتهم قبل الشروع في المهمات الانتحارية التي كان ينفذها الكاميكازي.
ويرمز رسمهم للساكورا على جوانب قاذفات القنابل إلى الجمال والحياة سريعة الزوال، وكانت الحكومة تشجع الناس على الإيمان بأن المحاربين الفدائيين الذين قتلوا في المعارك دفاعاً عن الوطن تتجسد أرواحهم في أزهار الكرز التي لا زالت وستظل رمزاً لجمال الطبيعة اليابانية.
ورغم ما حدث في اليابان من مآس بسبب التسونامي والزلازل المستمرة خلال السنوات الماضية إلا أن اليابانيين حريصون على الابتهاج والاحتفاء بموسم الساكورا الذي يذكرهم بالأمل وبأن الحياة تزهر وتضحك في وجوههم من جديد.