من ذاكرة التاريخ لأبناء اللواء التعزي (تعز وإب) مع الإمامية ..
نستعرض في هذا التقرير كيف سعت الإمامة إلى إفراغ اليمن الأسفل من قياداته ومن عقوله المفكره لكي تحكم السيطرة عليه:
عندما أعلن الأتراك العثمانيون عن نيتهم في الانسحاب من اليمن بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى ( 1914- 1917 ) تنادى اعيان اللواء التعزي فأعلنوا عن تمسكهم بالولاء للدولة العثمانية، وعدم رغبتهم في الانفكاك عنها، وبعثوا ببرقية بذلك للوالي العثماني .
بيد أن الوالي التركي بما بقى له من وجاهه لدى أعيان ومشائخ تعز بعث لهم الرسائل المتضمنة نصحا وإشادة بالإمام يحيى حميد الدين الذي تسلم منهم مقاليد الأمور في صنعاء وأبدى تخوفا عليهم من الانجليز في جنوب البلاد .
وجرت مفاوضات ومراسلات بين الإمام وبين وجهاء تعز حيث بسط لهم ممثلوه الضمانات والوعود، وكانت كل المراسلات تبشر بسياسة حكيمة للإمام ، وبتوحيد الصف .
وانتهى الأمر بهؤلاء الوجهاء إلى تشكيل وفد للذهاب إلى صنعاء .
وفعلا ذهب الوفد . واستقبل في صنعاء بالحفاوة اللازمة وأكرموا غاية الإكرام ، وأظهر لهم الأمام يحيى حميد الدين ، من التواضع والنوايا الحسنة والكلام المعسول ، ما أسكرهم ، وزاد على ذلك بأن وزع عليهم المناصب أو أثبتهم في وظائفهم تكرما ومنة وفضلا .
وهكذا عاد الوفد من عند الإمام يغمرهم الرضا والطمأنينة ، وهم لا يشكون إلا أنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه .
وما لبث الأمام حتى أرسل أميرا من سلالة آل البيت يمثله على تعز ، هو السيد على الوزير والذي دخل تعز على رأس جيشه دون مقاومة تذكر ، بل وسط ترحيب واستقبال من وجهاء تعز .
صور التأديب الإمامي لمدينة إستسلمت طوعا :
بيد أن ذلك الود لم يدم طويلا .
فما هي إلا أيام حتى بدأ أهالي ووجهاء تعز يحصدون المتاعب ، وبدأت تتبخر كل الوعود والعهود التي قطعها الأمام لهم فما الذي حدث يا ترى ؟
إن الذي حدث كان مرعبا ، لا يقبله عقل أو دين أو خلق ولا يتفق مع أي منطق ، ولكنه حدث .
بدأ الوالي السيد علي الوزير أيامه الأولى في تعز بالأمر بتخطيط العسكر على منازل المدينة أي توزيع المقاتلين القادمين من القبائل الزيدية ، على بيوت أهالي تعز البسطاء ليقوموا بكفايتهم وإطعامهم وخدمتهم وتوفير القات والمداعة «النارجيلة» والشمة لهم.. رغما عنهم – وهذا – أي الخطاط – إجراء تأديبي يتبعه عساكر الإمام عادةً في كل مدينة أو قرية تتمرد أو يدخلها عنوة . وما أظهرت تعز لحظة واحدة رفضها للوزير ولا قاومت ، فكان الخطاط كارثة لم يحسب حسابها .
وعن هذه الفترة نسمع المضحكات المبكيات من النوادر ممن لا زالوا أحياء وأسوأها أنهم – أي عساكر الإمام – ( بدأوا بمهاجمة المتبقي من مدارس العلم التي تعود إلى العهد الرسولي وكذلك المساجد ، فكسروا الزخارف ، وقشروا القباب ، بحثا عن كنوز وراءها ، فكان وهما مدمرا ، ثم مزقوا مكتبة الأشرفية التاريخية تمزيقا بغيضا ، وكانت عامرة بروائع كتب الحقب ، وبالمخطوطات النادرة حتى أنه لم يبق منها أثر .)
وأما المنازل فتم اقتحام قسري لها – بيتا بيتا – ونهب ما فيها ، حتى سراويل النساء قبل أن يتخذوا هذه المنازل ثكناتٍ لهم ، ولم يستثنوا إلا النادر منها وهي الموصى من قبل الأمير بعدم اقتحامها ، وانتهى مجموعة من العساكر إلى بيت بائس تقطنهُ مجموعة من العجائز فحاولوا اقتحامه إلا أن بوابته الركيكة أبت أن تفتح ، وصمدت صمودا معجزا ، أمام كل الوسائل التي لجئوا إليها من خرطوشة البندقية إلى الصخور التي قذفت بها حتى انكسر المهاجمون مذهولين تتردد في آذانهم صرخات واستغاثات النساء والابتهال إلى الله بدفع البلاء ..
ومن أظرف ما يروى عن العسكر أن نقبائهم كانوا يشقون سروال النساء من وسطه ويلبسونها مثل الثوب جهلا بها وكذلك استخدموا أردية الرأس النسائية (المقارم) مثل الشيلان على رؤسهم وأكتافهم …
وقف وجهاء ومشائخ وعلماء تعز مصدومين حائرين وهم يشاهدون تلك الأعمال الهمجية والوحشية وهي تحدث أمام أعينهم، وأخذوا يسألوا أنفسهم أيمكن أن يكون الذي جرى بينهم وبين الإمام طعما ؟
أي يمكن أن يكون هذا هو سلوك نظام حاكم يدعي الانتماء إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ؟
إفراغ اللواء التعزي من قياداته ومن عقوله المفكرة :
لم يقف الأمر عند ذلك الحد فبعد ذلك ، وبعد أن أستتب النظام الملكي الزيدي في تعز وإب ، رأى هذا النظام الطائفي أنه لابد من التخلص من أقيال ووجهاء اللواء وإهانتهم ، وتحطيم مكانتهم وهذا برغم ترحيبهم بالنظام الأمامي ومدهم يد العون للامير الجديد من اجل العمل على تمكينه ، واخضعوا له مختلف القبائل التي أبدت التمرد وأعلنت المقاومة كقبيلة المقاطرة على سبيل المثال .
وفي غضون ذلك أشيع عن تأمر أقيال ووجهاء تعز وإب على اغتيال السيد علي الوزير أمير تعز ، ومن ثم بعدها يعلنون الانضمام إلى الانجليز في عدن ، وكان ذلك مبررا كافيا لاعتقال خيرة زعماء ورجال اللواء التعزي (تعز_إب) وعلى رأسهم :
– الشيخ عبد الوهاب نعمان _ قائم مقام الحجرية وشيخ مشائخ تعز وإب .
– الشيخ حمود بن عبد الرب عامل العدين
– الشيخ احمد حسن علي باشا أحد شيوخ العدين
– الشيخ علي عبد الله الضباب
– السيد محمد احمد باشا عامل تعز
-الشيخ عبدالملك حسن بشر
– الشيخ عبد الله بن يحيى . عامل جبل صبر
– والجنيد عبدالله . عامل جبل رأس .
وكانت عملية الاعتقال تتم فجأة ، إذ أن هؤلاء الوجهاء لم يعرفوا أي شيء عنها ولا عن ما وراءها ، وكانت عملية الاعتقال غاية في الشناعة والفظاعة والهمجية وصورتها كما يلي :
يؤتى بأولئك الوجهاء من بيوتهم واحدا واحدا ، فيسأله الأمير – بينما كان العسكر المدججين بالسلاح يطوقونه :
– أين الوثيقة يا خبيث .. يا .. يا .. وكال له الشتائم والسباب من العيار الثقيل ، والرجل الحيي خافت الصوت لا يدري ولا يعلم عن أي وثيقة يتحدث الأمير – وكان قد شاع أنهم كتبوا وثيقة للتخلص منه .
– ما هي الوثيقة يا مولاي ؟
– التي تأمرت فيها مع زملائك لقتلي
– أعوذ بالله من ذلك وابرأ إلى الله
ويصر الأمير على تكذيبه ، ثم يلتفت إلى الجنود البلداء الفطنين للأذى قائلا : إن الخبيث منكر جاحد ، فدونكم وإياه .
فيسارع الجنود البلداء والمتحفزين للأذى بضرب هذا الرجل الكريم بالسلاح ورفسه بالأرجل قبل أن يقوموا بسحبه على الوجه إلى السجن المظلم .
ثم دعي الآخرون فردا فردا وعوملوا بنفس هذه الطريقة الهمجية وجرى حبس كل منهم في غرفة مغلقة كيئبة عفنة بصورة منفردة وتكبيلهم بالقيود الثقيلة وغل أيديهم وتطويق أعناقهم، حتى أنهم لم يستطيعوا حراكا.
ثم وكل بكل واحد منهم طائفة من الجند للتعذيب وتقاضي الغرامة اليومية ( أي نعم تقاضي الغرامة اليومية، تأملوا إلى أين وصلت الحقارة والنذالة بهؤلاء الذين يدعون الانتساب إلى آل البيت!! يستمنحون من الأسرى مأكلهم ويمتصون دماءهم حتى وهم في غياهب السجون)
واستمر ذلك الحال لمدة شهر كامل، ولم يرع لهم إلا ولا ذمة أو يرقب حرمة.
علما بان هذا الأمير السيد بن السيد بن السيد، كان يوصف بأنه زيدي معتدل، وأقرب في الفقه إلى الشافعية منه إلى الزيدية – فكيف لو كان من الزيود الأقحاح – يا لطيف ألطف!!
رحمة الأمام :
وقيل أن الإمام يحيى حميد الدين، لم يكن يدري بهذه الفظائع والإهانات التي ترتكب ضد مشائخ ووجهاء لوائي تعز وأب، الذين كان لهم الفضل في التمكين له في هذه المنطقة، ولذا يقال أنه ما أن علم حتى أشفق عليهم. فكيف كانت شفقة الإمام ؟
قالوا أن الإمام: أمر عامله على تعز أن يفك عنهم القيود الغليظة التي على أرجلهم وإبقاء ما على أيديهم ثم يربطهم بسلسلة واحدة ويرحلهم إلى صنعاء مشيا على الأقدام، حتى يرى الإمام رأيه فيهم بنفسه.
وكما هو معروف فإن الطريق بين تعز وصنعاء هي طريق جبلية وعرة ويقطعها المسافر في الأيام العادية في عشرة أيام. فيا لرحمة الإمام، ويالرقة قلبه !!
فجرى تنفيذ أمر الإمام “الرحيم ” من قبل أمير تعز السيد علي الوزير وهو ترحيل أولئك الزعماء ألاقيال إلى صنعاء .
وكان الترحيل إلى العاصمة صنعاء يعتبر نفيا لهؤلاء ، لان أحدا من أبناء اليمن الأسفل لم يكن يزور صنعاء عاصمة دولته أو يذهب إليها للعمل ، ولم يكن نظام الإمامة بدوره يرغب في رؤية وجوههم في حاضرة ملكه ، إنما كانوا يأممون وجوههم صوب عدن وشرق أفريقيا . حيث امتلأت بهم مدنها وأرصفتها هربا من جحيم الحكم الأمامي الكهنوتي .
وخرج العسكر الغلاظ الأجلاف يسوقون هؤلاء الوجهاء وهم مربوطون ببعضهم إلى سلسلة واحدة يجرون أقدامهم بصعوبة شديدة ، ويئنون من شدة الألم ، حتى إذا قطعوا عدة ساعات تساقطوا على الأرض من جراء الألم ، ومن وهج الشمس الحارقة ، وبسبب المرض والهزال اللذين تعرضت لها أبدانهم وهم في غياهب السجن ، كل ذلك والعسكر يسوطونهم ويزجرونهم ، ولكن إستحال عليهم أن يواصلوا المسير على ذلك النحو ، فجرى بعد وساطة وإهانة ومذلة فصلهم عن بعضهم البعض .
وعلى ذلك الحال المهين والمميت ، واصلوا المسير وبعد عشرة أيام ذاقوا خلالها الأهوال من المعاناة وسوء المعاملة ، وصلوا إلى صنعاء .
وظنوا واهمين أن الأمام ربما يحفظ لهم شيئا يسيرا من مكانتهم وكرامتهم .
فماذا فعل الإمام ؟
لقد أمر الأمام بأن يتم توجيههم رأسا إلى سجن صنعاء (القلعة) فصاحوا واستغاثوا ، ولكن لم يلتفت لهم أحد . وهكذا زج بهم في سجن صنعاء .
مع العلم بأنه بعد أن تم التخلص من أولئك المشائخ والوجهاء – وتم ترحيلهم إلى صنعاء – تحركت فرق أخرى من عسكر أمير تعز وزبانيته الأجلاف ، لمهاجمة منازلهم وقامت بالإستيلاء على جميع ما فيها حتى ملابس الأطفال وكانوا يأمر ون بإخراج النساء والأطفال بماعليهم من ثياب فقط دون الحلي فيرمون في الشارع ثم تتخذ تلك البيوت ثكنات للجند .
وتم تخريب تلك البيوت بحثا عن الكنوز والأموال المخبأة، التي كان أولئك العسكر الأجلاف مهووسين بها، ولما لم يجدوا فيها شيئا أمروا باحضار الخدم والتحقيق معهم حول الكنوز حتى يقتنعون انه لا يوجد شيء وإذا لم يقتنعون أمر بتعذيبهم ثم الزج بهم في الاصطبلات المغلقة العفنة وتبخيرهم بأشياء سامة حتى كان يغشى عليهم وبعد ذلك يخرجونهم لاستجوابهم مرة أخرى ويكرروا ذلك مرارا فإذا لم يقتنعوا عمدوا إلى صهر أسياخ الحديد في النار وكيهم بها في ظهورهم وجنوبهم ، حتى إذا يئسوا منهم تماما فرضوا عليهم – بعد ذلك العذاب الوحشي – جملة ضرائب للعسكر وللأمير وأطلقوا سراحهم.
وأما أولئك الوجهاء السبعة فقد قضوا أعمارهم في سجن الإمام ولم يطلق أحد منهم سوى محمد أحمد باشا عامل تعز . ولم أطلق يا ترى ؟
لقد أطلق بمبرر أنه هاشمي من بيت الرسول ، فيا للعنصرية !!
وأما بقيتهم فقد ماتوا في السجن أحدهم بعد الآخر ومنهم من أمتد بهم البقاء في السجن 25 عاما فكان شيخ شهداء الثورة الدستورية 1948واعدم في حجة . وهو الشيخ عبدالوهاب نعمان . فيا للحقد !!
ويحكى أنه عندما جاء نبأ استشهاده إلى ولده الشاعر الكبير/عبدالله عبد الوهاب نعمان _ الفضول . عبر عن ذلك شعرا واصفا الأمام بالتجرد من الإحساس والوجدان :
أبي ومن ذا زكي الأصل مثل أبـــــــي كأنما هو والأملاك خلانُ
فإن يمت فأكف الأنبياء لـــــــه نعشُ وأجنحة الأملاك أكفـــــانُ
نيفٌ وعشرين عاما أنت مبعد عنــــا فهـل لك إحسـاس ووجدانُ .
*(لمحات من تاريخ حركة الأحرار – أ/علي محمد عبده . ج1)