19.4 C
الجمهورية اليمنية
5:34 صباحًا - 24 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

كيف أصبحت ردفان في فم كل ثائر؟!

بلال الطيب

من الـوهلة الأولى لانـدلاع ثـورة «26 سبتمبر 1962»، هب أبناء ردفان ـ كغيرهم من ثوار الجنوب ـ لمساندتها، كـان لبوزة الاسم الأشهر في تاريخنا النضالي في الصفـوف الأولى للمواجهة، وبقرار اتُخذ من صنعاء اشتعلت جبال ردفـان بالمقاومة، قام الانجليز بعدة حملات عسكرية لإخضاعها، بـاءت جميعها بالفشل، وبالفعل كانت تلك الثورة نواة الكفـاح المُسلح، والقاصمة التي أجبـرت المُحتل على المُغادرة.

 

تعود المُقدمات النضالية لأبناء ردفان إلى العام «1881»، رفضوا عام ذاك الضرائب الجائرة التي فُرضت عليهم، أرسل المُحتل بحشد من عساكره لتأديبهم، تصدى الثوار لهم ببسالة، وشهدت سائلة «حروبة» فصول تلك المواجهة، أذعن الانجليز حينها للأمر الواقع، وطالبوا ـ على غير عادتهم ـ بالحوار.

 

بعد تلك الواقعة بـ «61» عاماً «1942»، قام أبناء ردفان بانتفاضة أخرى، تولى الشيخ الثائر راجح بن غالب لبوزة مهمة قيادتها، نجح بالهجوم على ثكنة عسكرية في جبل «الحمراء»، تمكن من القضاء عليها، ذاع حينها صيته، وصار «الجمَّال» النحيل الذي أمتهن جلب الحبوب من الضالع وقعطبة بطلٌ لا يشق له غبار.

 

استغل لبوزة الخلاف بين الانجليز والإمام أحمد، وتوجه ومعه أفراد من قبيلته «آل قطيب» إلى السخنة، لمقابلة الأخير «1956»، حظي وأصحابه بدعم منه محدود، ليقوم الانجليز بعد عودتهم بقصف قراهم، تصدى الثوار ببنادقهم الألمانية للطائرات الانجليزية، وأسقطوا اثنتين.

 

أواخر «مارس1963»، هبَّ أكثر من «300» مُقاتل ردفاني لمساندة الثورة السبتمبرية على مجموعتين، مجموعة بقيادة لبوزة، وأخرى بقيادة سيف القطيبي، سطروا في عبس والمحابشة صفحات ساطعة من الإقدام، وفي قريتي «الوعيل» و«مفتاح» سجلت مجموعة لبوزة أروع انتصاراتها.

 

كان قتال أبناء ردفان في جبال حجة مُشرفاً، شهداء وجرحى كُثر سقطوا منهم، ليعودوا بعد ثلاثة أشهر إلى صنعاء، بعد أن أعلن من هناك عن تأسيس «جبهة تحرير الجنوب»، أصدرت «الجبهة» بيانها التحرري «يونيو 1963»، كان لبوزة وسيف من جملة الموقعين عليه، التقوا بعدها بالرئيس السلال وقحطان الشعبي، وتم الاتفاق على فتح جبهة في ردفان، على أن يتولى لبوزة قيادتها.

 

تنفيذاً لذلك الاتفاق، عاد الثوار إلى ردفان نهاية «أغسطس 1963»، وبحوزتهم أسلحتهم الشخصية، وبعض القنابل، وحين علم «ني ميلن» الضابط السياسي البريطاني بذلك، أرسل إلى لبوزة ومجموعته، وطلب منهم تسليم أنفسهم وأسلحتهم، ودفع «500» شلن غرامة على كل فرد، كضمانة لعدم عودتهم إلى الشمال مرة أخرى، رد لبوزة عليه برسالة قوية، وأرفقها بـ «طلقة رصاص».

 

لبوزة الثائر الأمي، الذي لا يجيد الكتابة إلا بلغة البندقية، أملى لكاتب رسالته عبارات مُختزلة خالية من مفردات المهادنة الاستسلام، قال للضابط الانجليزي: «عُدنا إلى بلدنا، ولم نعترف بكم ولا بحكومة الاتحاد المزيفة، وان حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية، ونحذركم من اختراق حدودنا».

 

استشاط الضابط الانجليزي غضباً، تقدم في اليوم التالي صوب ردفان، ألقى القبض على مجاميع قبلية عائدة لتوها من الشمال، فما كان من الثوار إلا أن تمترسوا فوق جبل «البدوي» المُطل على الحبيلين، لتدور في صبيحة يوم الاثنين «14 أكتوبر 1963» مواجهات شديدة بين الطرفين، انتهت قبل أن ينتصف ذلك النهار، بسقوط لبوزة شهيداً، متأثراً بشظايا قذيفة مدفعية، عن عمر يناهز الـ «64» عاماً.

 

أذاعت إذاعتي صنعاء وصوت العرب النبأ الفاجعة، وبعد مواراة جثمان الشهيد، فتيل الثورة وفارسها المقدام، تعاهد الثوار فوق قبره على مواصلة المشوار، اختاروا ولده «بليل» قائداً لهم، وجعلوا من وادي «دبسان» مسقط رأسه مقراً لعملياتهم.

 

مثلت لحظة استشهاد لبوزة بداية حقيقية لمرحلة الكفاح المسلح، جميع الكيانات الجنوبية المسلحة اعتبرتها كذلك، أصدرت «الجبهة القومية» بيان حماسي، نعت فيه الشهيد، وأكدت مواصلة النضال، جاء فيه: «ونعاهد راجح بن غالب أن نخوض المعركة حتى النصر، مهما كانت التضحيات».

 

حكومة الاتحاد من جهتها أصدرت بيان طويل مليء بالأكاذيب تم بثه عبر إذاعة عدن، جاء فيه: «أن فرقة مؤلفة من الجيش والحرس الاتحادي تعرضت لنيران فريقين من رجال العصابات، كانوا يطلقون النار من مراكز تقع في الجانب الجبلي، ويتألف الفريقان من ثمانية وثلاثين رجلاً، بقيادة قائد رجال العصابات الرجعي المُفسد راجح بن غالب لبوزة، ولم يصمد أتباع اللص لبوزة أمام القوات الاتحادية المدربة تدريباً عالياً التي أرغمتهم على الفرار».

 

نهاية ذات العام، أصدرت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن تقريرها الفصلي عن «الموقف القبلي وتقييم الامكانيات»، رفعته إلى وزارة الدفاع في لندن، جاء فيه: «أن الشيخ راجح غالب لبوزة قد قاتل قوات الحكومة، وقُتل على يد قوات الحكومة الاتحادية، وكان رجلاً شجاعاً وصادقاً ويستحق الاحترام».

 

سعى الانجليز لكبح الثورة في مهدها، قاموا خلال العام «1964» بخمس عمليات كبيرة، شارك فيها آلاف الجنود، وعدد كبير من الأسلحة الثقيلة، أطلقوا على حملتهم الأولى «نتكراكر»، ومعناها «كسارة جوز الهند»، تكونت من الكتائب الثانية والثالثة والرابعة لجيش الاتحاد، معززة بكتيبة مصفحات، وبعض القوات البريطانية المسنودة بالدبابات والمدفعية والطائرات، وكانت منطقة «الثمير» نقطة تجمعها.

 

ما أن أقلت «طائرات الهيلوكبتر» كتيبة من الجنود فوق الهضاب المشرفة على وادي «ربوة» و«وادي المصراح»، حتى انهال الثوار عليها بالضرب من بنادقهم، لتسارع القيادة الانجليزية بوقف هذه العملية، نهاية ذات الشهر، ثم عادت و أمرت باستمرار انزال الجنود، وبالفعل أنزلت ثلاث فرق، أحاط بهم الثوار وأجبروهم على الرحيل مشياً على الأقدام.

 

قام الانجليز بعد ذلك بحملتهم الثانية «رستم»، سيطروا فيها على «وادي تيم» و«وادي ذنبه»، نجح الثوار بعد أن وصلهم الدعم في استعادة تلك المناطق، وقتل عدد من الجنود، أعلنت إذاعتي صنعاء والقاهرة نبأ ذلك الانتصار، الأمر الذي أغاض الانجليز، قاموا أواخر «مارس» بإرسال سرب مكون من ثمان طائرات من نوع «هنتر» لضرب حريب، وهو التعدي الصارخ الذي أثار سخطاً عاماً في الصحافة البريطانية وهيئة الأمم المتحدة.

 

اعترفت تقارير المخابرات البريطانية حينها أن عدد الثوار في ردفان وصل إلى أكثر من «500» مقاتل، ولأول مرة ذكروا بأن الثوار صاروا يلبسون بدلات رسمية، وأنهم في غاية التنظيم، ومسلحون تسليحاً جيداً.

 

بعد فشل الحملة الثانية منتصف «ابريل» قرر الانجليز القيام بعملية عسكرية كُبرى بقيادة المأجور جنرال «جون كابون»، القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وهي قوات خاصة سميت بقوة «ردفوس»، وقد خصص للعملية عدد كبير من الطائرات، وحددت أهدافها بمنع الثورة من الانتشار، وإيقاف الهجمات على طريق الضالع، فيما بلغ عدد الجنود المشاركين بها حوالي «3000» جندي وضابط، واستمرت لحوالي «25» يوماً، وكسابقتها كان مصيرها الفشل الذريع.

 

على الرغم من تمركز قوات «الكومندوس» البريطانية فوق الجبال المُطلة على وادي «تيم» و«وادي ذنبه»، وتهجيرها لسكان قرى الواديين، استمر الثوار المتمركزين شمال وادي «تيم» ووادي «المصراح» وجبال «البكري» بمناوشتهم وتكبيدهم الكثير من الخسائر، ولذلك قرر الانجليز القيام بحملة رابعة بقيادة «بلكر»، استمرت من «11 حتى 23مايو».

 

أراد الانجليز من خلال هذه الحملة تعريف الثوار بقدرة جنودهم على التغلغل في عمق المناطق الوعرة، والاستحواذ على جبال «البكري» الاستراتيجية، وقد كان لهم ذلك، دارت المعركة الرئيسية في قرية «القطيشي»، ليشهد الانجليز بعد انتهائها بشجاعة أبناء ردفان وبسالتهم.

 

بعد ذلك تأتي الحملة الخامسة من «24 مايو» إلى «23 أغسطس 1964»، بقيادة «بلير» ثم «بلكر»، وكان الهدف منها السيطرة على جبل «الحورية» أعلى قمة في ردفان، شن جيش الاحتلال هجمات فجائية على وادي «تحلين» بهدف السيطرة عليه، وقطع طرق قوافل الثوار المُحملة بالذخائر والمؤن من الشمال، إلا أن الثوار تصدوا لهم، اسقطوا «طائرة هيلوكبتر»، وأعطبوا طائرتين.

 

أضطر وزير الدفاع البريطاني «دنكن ساندر» حينها أن يأتي لجبال ردفان الملتهبة في عز شهور الصيف، محاولاً رافع معنويات جنوده المنهارة، كما اضطرت الحكومة البريطانية أن تستقدم بعض جنودها المتواجدين في جنوب افريقيا وايرلندا، ولقوة وبسالة ثوار ردفان كانت الصحافة البريطانية تطلق عليهم: «الذئاب الحمر».

 

عقد مجلس العموم البريطاني جلسة خاصة لمناقشة تداعيات ذلك الوضع المُربك، وذكر أحد المؤرخين ـ حضر تلك الجلسة ـ أن أعضاء المجلس تحدثوا عن صمود أبناء ردفان، وتسأل أحدهم: كيف لم تستطيع قواتهم المزودة بأحدث العتاد العسكري من القضاء على المتمردين، وكيف لم تتمكن  «1700» غارة جوية من ضرب مواقعهم؟!، وعلق ساخراً: «لقد أقاموا متحفاً أطلقوا عليه متحف الرؤوس البريطانية، لكثرة قتلانا هناك».

 

لم يسترح ثوار ردفان لحظة، تمكن الانجليز نهاية العام «1964» من تضييق الخناق عليهم، تمترسوا في المرتفعات الوعرة، الصعبة المسالك، ظلوا أياماً بلا ماء ولا طعام ولا ذخيرة، حتى الهواء لم يكن سوى غلالة كثيفة من رائحة البارود، ازدادوا قوة وصلابة، لم يتزحزحوا عن مواقعهم قيد أنملة، تغلبوا على جميع المعوقات، وأثبتوا للجميع أن الثورة مُستمرة، وأن بريطانيا يمكن هزيمتها.

 

تأكد حينها للقاصي والداني نُبل مطالب الثوار، وقوة شكيمتهم، وقسوة المُحتل، وحقارة عملائه، خاصة بعد أن مارس الأخيرين جرائم حرب شنيعة في حق ردفان وأبنائها، أخذت طابع «الأرض المحروقة»، سمموا الآبار، وزرعوا الألغام، وقصفوا المنازل، وتسببوا بكارثة إنسانية فظيعة، نزح بسببها آلاف المواطنين إلى الضالع، وماوية، وعدن، وقد أدان أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني تلك الأعمال، وتناقلت تصريحاته وكالات الأنباء.

 

وفي عدن وقف أحد السياسيين الجنوبيين يتأمل أفوج النازحين، وقال مُتهكماً: «هذا ما جنته ردفان من الكفاح المسلح»، وماهي إلا أيام قلائل حتى ضجت شوارع المدينة بالثورة، ولم يكد ينتهي العام «1965» إلا وهناك «12» جبهة مفتوحة في أرياف الجنوب، ساهمت عمليات عدن الجريئة في تخفيف الضغط عليها، وصارت «ردفان في فم كل ثائر»، حسب أغنية شهيرة لـ «المرشدي»، لتكلل تلك التضحيات برحيل المُحتل نهائياً «30 نوفمبر 1967».

 

الثورة قضية صادقة، وفعل مُستمر، وهي قبل هذا وذاك إنسان حر يُضحي دون مَنّ، وجُغرافيا صامدة تختزل الوطن، وكما لكل صمود ضريبة؛ فإن لكل انتصار ثمن، وتبقى «14 أكتوبر 1963» ثورة ردفان التي واجهت أعتى احتلال، ويبقى انتصارها محسوب لكل اليمن، والتاريخ يقول: أصحاب الأرض باقون، والغُزاة دوماً إلى زوال.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد