بلال الطيب :
لم يهنأ «الهادي» يحيى بن الحسين أثناء فترة حكمه بالاستقرار لحظة، ما أن يُخمد تمرد إلا ويشتعل عليه آخر، وكان الأقسى عليه تحول أصدقاءه بالأمس إلى أعداء، ليدخل في سلسلة طويلة من الحروب مع هذا التيار المُتردد، أخذت جلَّ وقته، وحين أهداه أحدهم جارية جميله أرجعها له، بعد أن قال فيها:
كفّي لحاظك ليس هذا وقتها
بل وقت كلّ مهنّد وسنان
أمطاعن الآساد في غاباتها
حاشا ترود مرابض الغزلان
بطلب من «أبي العتاهية» عبدالله بن بشر بن طريف، أحد موالى «آل يعفر»، توجه «الهادي» صوب صنعاء، ليدخلها ليلة «23 محرم 288هـ / 17 يناير 901هـ»، وفي اليوم التالي وأثناء صلاة الجمعة حصلت فوضى كبيرة، ثار السكان عليه، وتجمع أكثر من «10,000» منهم، وهم يرددون: «لا نريد العلوي، ولا يدخل بلدنا».
بدأ الثوار بمناوشة أنصاره، هزموهم في الكرة الأولى، ثم حمل «الهادي» عليهم بنفسه، هزمهم، وطاردهم إلى خارج أسوار المدينة، وحين استتب له أمرها، وبايعه سكانها، ضرب اسمه على العملة، وحبس المُتمردين من «بني طريف»، وأخذ سلاحهم ودوابهم وفرقها على «الطبريين».
توجه «الهادي» بعد ذلك إلى شبام، أخذها من «آل يعفر»، وجعل عليها ولده محمد، ومنها انطلق صوب ذمار، ويريم، ورداع، وفي الأخيرة انضم إليه أحمد بن الروية، وكان الأخير وأولاده من أبرز أنصاره، وقيل أنه توجه بعد ذلك جنوباً، دانت له لحج وأبين وعدن، وجعل على الأخيرة أحد «الطبيرين» ويدعى علي بن ذكوان، أما صنعاء فسبق وجعل عليها أخاه عبد الله، وفي خروجه الثاني إلى شبام جعل عليها ابن عمته علي بن سليمان.
قام «الهادي» بعد ذلك بعزل صعصعة بن جعفر «صاحب ريدة»، وأمر بحبس أمراء «آل يعفر»، وحينما جدد العزم على قتل الأخيرين؛ ثار الهمدانيون عليه، منهم من توجه إليه في شبام، ومنهم من وثب على ابن عمته في صنعاء، أخرجوهما، وأخرجوا «آل يعفر» من السجن، أعادوهم لكرسي الحكم، وأعادوا الخطبة لـ «المعتضد» العباسي.
انسحب «الهادي» بقواته إلى ريدة، وهناك تلقاه صاحبها «ابن جعفر»، دارت بينهما حروب، هزمه، وخرَّب قصره، وأمر بقطع رؤوس القتلى وإرسالها إلى صعدة، وما هي إلا أيام قلائل حتى قاد بنفسه جيشاً لاستعادة صنعاء، تم له ذلك «27 رجب 288هـ»، استمرت الحرب بينه وبين «بني طريف» و«آل يعفر»، وخسر فيها «أبو العتاهية»، و«ابن سليمان»، وهما من أبرز قواده.
أصيب «الهادي» في إحدى المعارك بجرح في رأسه، وكاد يلقى حتفه، وبسببه، ولعجزه عن الوفاء بنفقات عساكره؛ قرر مغادرة صنعاء «جماد الآخر 289هـ»، وخاطب سكانها الذين رفضوا إقراضه قائلاً: «والله لتمنونني، وليضربنكم الله بلباس من الجوع والخوف، ولتباعن نساؤكم بالدينار والدينارين والثلاثة».
كما خاطب «بني طريف» مُتوعداً:
غر العبيد بني طريف علتي
مع محنة دامت علي ليالي
وأنا الذي عرفوا وسوف أزورهم
بالخيل عابسة وبالأبطال
لست ابن أحمد ذا المكارم والعلا
إن لم أثر نقعاً بصحن أزال
عاد «الهادي» إلى صعدة، وعاد في أواخر ذات العام أحمد بن عباد الأكيلي، قادماً من العراق، قام بانتفاضة كبرى، سانده فيها «بنو طريف» و«بنو الحكمي» سلاطين «المخلاف السليماني»، وامتد تمرده إلى «كتاف، ووائلة، والمطلاع».
أخمد «الهادي» تلك الانتفاضة، ومارس في حق ابناء تلك المناطق جرائم حرب شنيعة، حتى طلبوا لهم ولـ «ابن عباد» الأمان، وفي ذلك قال «كاتب سيرته»: «ومضى العسكر كله حتى نزلوا قرية أملح، ونهبوا ما وجدوا فيها، وأقاموا أياماً يخربون المنازل والآبار، ويقطعون النخيل والأعناب، والقوم في ذلك يطلبون الأمان، وهو كاره لذلك.. ينتقل في قراها ويخربها قرية قرية، حتى طرحوا عليه بأنفسهم، فأمنهم ورجع إلى صعدة بعد مكابدة شديدة».
في تلك الأثناء، وصلت إلى «الهادي» رسالة من صاحبه الدعام بن إبراهيم يخبره فيها بخلاف «بني طريف» و«آل يعفر»، ويستنهضه للتوجه إلى صنعاء، مشيراً إلى أن الأخيرين راسلوه، ووعدوه بتسليم الأمر، على أن يحاربا معاً «بني طريف».
في الوقت الذي وقف فيه الدعام «شيخ بكيل» مع «الهادي»، وقف أحمد بن الضحاك «شيخ حاشد» مع «بني طريف»، دارت معارك كثيرة بين الفريقين «رجب 290هـ»، كانت الغلبة فيها للأخيرين، وقد نجح «ابن الضحاك» في أسر محمد بن الإمام في «إتوة ـ أرحب»، سلمه لإبراهيم بن خلف، طاف به الأخير في أسواق صنعاء، ثم قام بحبسه في بيت بوس.
قال محمد في سجنه أشعاراً كثيرة، نقتطف منها:
يا بيت بؤس حللنا في حواك على
خذلان أمتنا من بعد ميثاق
ماذا اعتذارهم عند النبي غداً
إذ لم يقوموا على نصري وإطلاقي
أراد «المكتفي» ـ الخليفة العباسي حينها ـ أن يستعيد صنعاء لحضيرة «الدولة العباسية»، ويقضي على «الدولة الهادوية»، جهز لذات الغرض علي بن الحسين جفتم والي صنعاء السابق، أرسله على رأس قوة كبيرة، ليتفاجأ «جفتم» حال وصوله مشارف المدينة بخروج «الهادي» منها، وقيل أن الأخير سمع بمقدمه فولى هارباً.
قبض «بنو طريف» بالخديعة على «جفتم»، زجوا به في السجن، وقتلوا كثيراً من أصحابه «شوال 290هـ»، جاء حينها أسعد بن يعفر لنجدته، نجح في ذلك، فيما هرب «ابن خلف» إلى تهامة، وما هي إلا أيام معدودة حتى اختلف «جفتم» و«أسعد»، أنتصر الأخير عليه، قام بقتله، وأطلق محمد بن «الهادي» من الحبس، واستمر حاكماً على صنعاء لسنوات مُتقطعة.
بعد تلك الخيبات، آثر «الهادي» البقاء في صعدة، وتفرغ للتأليف وإعادة ترتيب أوراقه، وقيل أن «بني الحكمي» في تهامة بايعوه، وطلبوا نجدته أثناء حروبهم مع «بني زياد»، أنجدهم، فاختلفوا، ودارت بينهم حروب، ولم يوضح «كاتب سيرته» نتائجها.
كان علي بن الفضل الحميري في تلك الفترة يصول ويجول في «اليمن الأسفل» ساعياً لتثبيت دولة اسماعيلية باسم الفاطميين، إلا أنه تجاوز المهام الموكلة إليه، واستقل بالحكم لنفسه، وتوج فتوحاته التي استمرت «20» عاماً بدخول صنعاء «10 محرم 293هـ»، حلق يومها رأسه، فحلق «100,000» من أصحابه رؤوسهم بعده.
ويذكر «الجندي» أنَّ يوم دخول «ابن الفضل» صنعاء كان ممطراً، وأنه أمر بسد ميازيب الجامع الكبير، وطلع منارته، وأمر أصحابه يلقون بالنساء التي سباهن عاريات، ومن أعجبته أخذها إلى المنارة وافتضها، وهي رواية شكك في صحتها كثير من المؤرخين، بل وعدوها من ضمن حملات التشويه التي طالت كثير من الثائرين اليمنيين.
لم يدم بقاء «ابن الفضل» في صنعاء كثيراً، غادرها صوب تهامة، وترك فيها عدد من أنصاره، ثار عليهم أحد موالي «آل يعفر» ويدعى الحسن بن كباله، وطاردهم، ليسارع في تلك الأثناء جماعة من سكان المدينة للذهاب إلى «الهادي» يستنهضونه بالقدوم إليهم، وحين عددوا له مثالب «ابن الفضل»، قال لهم: «قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل».
دخل «الهادي» صنعاء للمرة الثالثة «جماد الآخر293هـ»، ومعه «آل يعفر، والدعام، وأبناء الروية»، وغيرهم من رؤساء اليمن، كان في قلة من أنصاره، وحين أحس برهبتهم من ملاقاة «القرامطة»، خاطبهم: «تفزعون وأنتم ألفا رجل»، فقالوا: «إنما نحن ألف رجل»، فقال: «أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم»!!.
بعث بعد ذلك بابنه محمد إلى ذمار، ليعود «ابن كبالة» بداية العام التالي قاصداً طرد «الهادي»، وحين رأى الأخير امتناع سكان صنعاء عن نصرته، أدلف راجعاً إلى صعدة، فما كان من «القرامطة» إلا أن أعادوا السيطرة على المدينة المنكوبة.
أرسل السكان إلى «الهادي» طالبين النجدة مرة أخرى، فأنجدهم بجيش، ثم أتبعه بآخر، أخرجوا «القرامطة»، وأقاموا فيها مدة، ليعزم حينها «ابن الفضل» على العودة إلى صنعاء، وقد تم له ذلك «رجب 294هـ»، ودام بقاؤه فيها ـ هذه المرة ـ ثلاث سنوات إلا بضعة أيام.
ظلت نجران هم «الهادي» الشاغل، تسللت إليها معالم الدعوة الإسماعلية على يد حسين الحاشدي، وتلقفها معظم السكان، ثاروا عليه، توجه إليهم «رجب 294هـ»، دمر، وأحرق، وأودع في السجن «20» رجلاً من دعاتهم، العباسيون من جهتهم حاولوا السيطرة عليها، وقيل أنهم تلقوا رسائل استغاثة من سكانها، أرسلوا بحميد الحماسي لذات المهمة، وقد اشترط الأخير عليهم قتل عاملهم محمد بن عبيدالله العباسي.
توجه «الهادي» إلى نجران «شوال 295هـ»، وفي ذلك قال «كاتب سيرته»: «طردت بنو الحارث في رؤوس الجبال، وأخلوا المنازل والأموال.. وجعل ابن بسطام يستأمن لبني الحارث قبيلة قبيلة، وضربهم الله بالذلة»، ولما رأى «الياميون» رضا «الهادي» عن «ابن بسطام» عملوا على اغتيال الأخير، وقد نجحوا في ذلك، وقيل أنهم قتلوه انتقاماً لقتله ستة من رجالهم.
عاد «الهادي» إلى صعدة، وعاد بعودته تمرد قبائل نجران، تمرد «بنو الحارث» بقيادة «ابن حميد»، توجهوا لدار «ابن عبيدالله»، حاصروه، ثم قتلوه، واحتز أحدهم رأسه وهو يرتجز:
شيخ لشيخ وصبي لصبي
شفيت نفسي منك يا نسل علي
فلا أبالي بعدها ما حل بي
من سخط الله ومن لعن النبي
في العام «297هـ»، أرسل «الهادي» ولده محمد على رأس جيش كبير لإخراج «القرامطة» من صنعاء، وحين تم للأخير ذلك، وبعث عماله في المخاليف، ثار عليه موالي «آل يعفر»، فما كان من والده إلا أن أمره بالعودة، كي لا يجتمع عليه حرب «القرامطة» وموالي «آل يعفر»، أما نجران فقد استمرت المعارك فيها حتى وفاة «الهادي».