بلال الطيب :
بين فِكرة الدولة، ودولة الفكرة، ثمة علاقة طَردية من الصعب اختزالها، والتنافس الذي حصل خلال القرنين السابع والثامن الهجري، ـ بين «الرسوليين» كدولة، و«الاماميين» كفكرة ـ ما هو إلا صورة مُصغرة لصراع لا ولن ينتهي، يَتكرر في حاضرنا كعناوين، أما التفاصيل فهي مُختلفة تماماً.
أسس «المنصور» عمر بن علي رسول «الدولة الرسولية» في اليمن «628هـ / 1231م»، وهي في الأصل امتداد لـ «الدولة الأيوبية» التي استمرت قرابة الـ «59» عاماً، ضرب السكة باسمه، وأعلن ولائه لـ «الدولة العباسية»، وإليه أرسل الخليفة «المُستنصر» بمرسوم توليته، وخاطبه الشيخ أحمد بن علوان ناصحاً:
يا ثالث العُمرين افعل كفعلهما
وليتفق فيه منك السر والعلن
واستبد عدلاً يقول الناظرون له
نعم المليك ونعم البلدة اليمن
كانت حينها «الإمامة الزيدية» مُنكمشة بفعل الضربات المُوجعة التي تلقتها من «الأيوبيين»، وكان لها إمام ـ وقيل مُحتسب ـ يُدعى شمس الدين أحمد بن عبد الله بن حمزة، تولاها نهاية العام «623هـ»، بعد وفاة «الناصر» عز الدين محمد، كان كأخيه في غاية الضعف، تلقب بـ «المُتوكل»، ولم تتجاوز صفته كزعيم لـ «الحمزات».
صالح وعمه يحيى بن حمزة «الرسوليين» عام قيامهم، التقوا السلطان عمر في حصن «ذي مرمر»، وخاطبوه في حضرة الوسطاء من سلاطين «بني حاتم»: «يا مولانا نور الدين تسلطن في اليمن، ونحن نخدمك ونبايعك، على أن بني أيوب لا يدخلون..»، وظلا وبعض أقربائهم حكاماً باسمه على عدة مناطق.
نقض يحيى بن حمزة وأولاده ذلك الصلح «634هـ»، استحدث حصناً في المحالب، واستولى على حصن كوكبان، بدون رضا ابن أخيه، توجه السلطان عمر إليه بـ «60,000» مُقاتل، أخذ جميعَ ما كان تحت يديه، وجعل على تلك المناطق نُواباً من قبله، ولم يكد ينتهي ذلك العام حتى اعتذر الأمير عن فعلته، فأعاده السلطان وأولاده لما كانوا عليه.
وفي العام «642هـ»، تحققت للسلطان عمر السيطرة التامة على أغلب مناطق «اليمن الأعلى»، باستثناء بعض الحصون، جعل على صنعاء ابن أخيه أسد الدين محمد بن الحسن، وكان الأخير كثير التمرد عليه وعلى ولده «المظفر» يوسف من بعده.
بإعلان الشاب أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إماماً «13 صفر 646هـ»، عاودت «الإمامة الزيدية» الظهور وبقوة، وهو من نسل القاسم بن إبراهيم طباطبا، تلقب بـ «المهدي»، وعُرف بـ «أبي طير»، أجمع غالبية علماء «الزيدية» وأنصارها عليه، وقيل أنَّ اختياره كان كحل وسط لإنهاء الصراع الدائر بين «الحمزات» و«آل الهادي».
كان الإمام الجديد كريماً، فقيها أديبا، عالماً بِمذهبه، مُتعصباً له، مُكفراً لمُخالفيه، حازماً، لا يسكن قلعة، ولا يأوي إلا البراري والجبال، استولى بمساعدة أنصاره المُتحمسين على «20» حصناً حصيناً، وعزز تواجده بسرعة خاطفة في أغلب مناطق «اليمن الأعلى».
حاول السلطان عمر استعادة تلك المناطق، لتدور بينه وبين «ابن الحسين» عدة معارك، كانت حد وصف صاحب «السمط الغالي»: «سجالاً على قلة عسكره، وإقبال الناس على الإمام»، معركة «العقاب» بالقرب من حصن ثلا كانت الأشهر «جماد الآخر 646هـ»، خسر فيها الإمام حوالي «90» مُقاتلاً، ولم يخسر الحصن.
وفي العام التالي، خسر أكثر من «300» مقاتل، بعد محاولة فاشلة لصد احدى الزحوفات «الرسولية»، لينتهي ذلك العام بمقتل السلطان عمر في قصره بالجند، على يد ثلة من غلمانه، وقال «الخزرجي» أن قتله تم بمؤامرة دبرها ابن أخيه أسد الدين.
خلال الأربع السنوات الأولى من حكم «المظفر» يوسف بن عمر، تقوى أمر «ابن الحسين»، سيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب «الرسوليين» وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، رغم اعترافهم به حاكماً على «اليمن الأعلى».
كان لانضمام الأمير «الرسولي» المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف «ابن الحسين»، أثره البالغ في ترجيح كفته، امتدت سيطرته إلى ذمار وبيحان، وغزا مأرب بـ «1,400» مقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بـ «حي على خير العمل».
تحالف «الحمزات» منذ البداية مع «ابن الحسين»، إلا أن المودة لم تدم بينهم طويلاً، اختلفوا، ودارت بينهم عدة حروب، كانت معركة «قارن» أشهرها «14 شوال 647هـ»، خسروا فيها أكثر من «380» من أقربائهم وأنصارهم، غير الأسرى، وسقطت مناطقهم الواحدة تلو الأخرى، حتى صعدة.
وفي صعدة، رفع شمس الدين أحمد راية الاستسلام، خاصة بعد مقتل صديقه السلطان عمر، صالح «ابن الحسين» بشروط إذلالية، وزوجه بدنيا ابنة أخيه محمد، ومدحه بقصيدة عصماء، جاء فيها:
أضاء على الإسلام نورك وانجلى
بوجهك ليل الهم وابتسم الدهر
وقد علم الأعلام من آل أحمد
بأنك أنت الفُلك لما طغى البحر
ألصق مؤرخو «الزيدية» بـ «ابن الحسين» مُعجزات خارقة، وكأنه المسيح عليه السلام، وقالوا أنه – وأثناء مُكوثه بمدينة صعدة – مسح بيده على رجل مُقعد يدعى «التنين»، وأنَّ الأخير استوى من فوره قائما، وقد صور الشاعر القاسم بن هُتيْملٍ ذلك المشهد بأسلوب دعائي، وخاطب مُعارضي سيده قائلاً:
أبعد شهادة التنين يعصي
من الثقلين مأموم إمامه
أتاك كضفدع الغمرات جهراً
فقام كسمهري الخط قامة
وما عرف المسيح بغير هذا
أمعجزة النبوة في الإمامة
وما انفرد ابن مريم عنك إلا
بعازر فهو قد أحيا رمامه
وذكر «كاتب سيرته»، أنّهَ – وأثناء وقوف الإمام بمدينة ثلا – قدِم إليه رجل أعمى، مسح على وجهه ورأسه، وقرأ عليه، ودعا له، وأضاف ذات المؤرخ: «فخرج الأعمى من بين يديه وقد شفاه الله وعافاه، وأبصر الأشياء صغيرها وكبيرها، فكبر الناس لذلك»، وعن تلك المعجزات المُلصقة قال مسعود العنسي:
وكيف يد كمثل يمين عيسى
إذا مَسَحَتْ أزيل بها السقام
أأنسى أنعم المهدي عندي
فأنكرها؛ إذا بئس الذمام
وتحدث البعض أنَّه ـ أي الإمام ـ دعا ذات معركة على صخرة كان بها نفع عظيم لأعدائه، فسمع لها هدة كالزلزلة، وصارت كالرماد، فقال أحدهم:
أومى إلى هضب الكَميم بطرفـه
فتبــددت أحجــاره تبديـداً
كان «ابن الحسين» بلا خبرة سياسية، لم يعمل على احتواء منافسيه الطامحين، ورغم خضوع «الحمزات» له، عمل على إذلالهم، وتهميشهم وحلفائهم «بنو حاتم»، الأمر الذي دفعهم إلى رفع راية العصيان، والتحصن في حصني «ذي مرمر» و«العروس»، حاربهم، ونكل بهم، فـ «خربت البساتين، وغُورت الآبار، ودُمرت البلاد» ـ حد توصيف «كاتب سيرته» ـ وصور الشاعر «الحاتمي» المشهد بقوله:
أباح دماء المسلمين ومالها
وكان رجاها أن يقُوم وينصُرا
فيا معشر الإسلام لم يبق مُنصف
ولا مُنكرٌ يدعو إلى الله مُنكرا
فإن تثأروا أو تنكروا كان عاجلاً
وإلا قصدنا الأريحيَّ المُظفرا
وبالفعل ارتمى «الحمزات» و«بنو حاتم» في أحضان «المظفر»، أصلحوا بينه وبين ابن عمه أسد الدين، فتقوى بذلك أمر «الرسوليين»، استعادوا صنعاء للمرة الثالثة «651هـ / 1254م»، وسيطروا نهاية ذات العام على صعدة، وأجبروا «ابن الحسين» على الهروب إلى عُلاف، وأسروا قائد جيشه الحسن بن وهاس، وأعلنوا بدأ العد التنازلي لزوال دولته.
وفي «شعبان» من العام التالي، حصلت موقعة «الحصبات»، وهي معركة شهيرة، قتل فيها حميد الدين المحلي ـ صاحب «الحدائق الوردية» ـ ركن دعوة الإمام، كتب بعدها الأخير لشمس الدين أحمد برسالة طويلة مُعاتباً، جاء فيها: «لو بُعث أبوك وجدك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكانا مع حميد أم عليه؟! أو سعيا إليك أو إليه؟!»، وأضاف: «رادفت الغمة، وراكمت سحايب الظلمة، وقتلت رباني هذه الأمة».
بعد تلك المعركة بشهرين، توجه «الحمزات» بوفد كبير لمقابلة السلطان «الرسولي» المتواجد حينها في زبيد، برئاسة كبيرهم شمس الدين أحمد، الذي لم يكترث لتقريعات «ابن الحسين» النارية، قدم لـ «المظفر» جزيل الشكر، وجدد له الطاعة، وحظي بدعم منه كبير، وقال فيه:
ولما قصدت الملك ذا التاج يوسفاً
علمت بأن الهم ليس يعود
دعوت فلباني فتى لا مزندٌ
ملولٌ ولا واهي اليدين بليد
كان خليفة بغداد «المُستعصم» قد كتب قبل ثلاث سنوات إلى «المظفر» طالباً منه القضاء على «ابن الحسين»، واعداً إياه بإقطاعه مصر؛ إذا نجح في مُهمته، وبالفعل استطاع «الحمزات» وبدعم «رسولي» كبير أن يقضوا على ذلك الإمام، قتلوه بـ «شُوابة ـ ذيبين»، أثناء رجوعه من الجوف «28 صفر 656هـ»، وعمره «44» عاماً، ومثلوا بجثته، وحزوا رأسه، والمفارقة العجيبة أنَّ الخليفة «العباسي» قتل في ذات اليوم.
كان لخذلان علماء الزيدية لـ «ابن الحسين»، أمثال أحمد الرصاص، والحسن بن وهاس، وإصدارهم فتوى ببطلان إمامته، الأثر الأكبر في سهولة القضاء عليه، تخلوا وأنصاره عنه، وقيل أنه صمد في معركته الأخيرة لوحده، وفيهم قال أحد الشعراء:
الويل كل الويل للرصاص
ولحزبه الداني معاً والقاصي
حرصوا على قتل الإمام وهم
على الكفار والفساق غير حراص
أرسل شمس الدين أحمد لـ «المظفر» يوسف برأس الإمام الصريع، مع كتاب صغير، «حدد به الخدمة، وشكر النعمة لله تعالى، ثم للمقام السلطاني خلد الله ملكه»، وأنهاه ببيتين من الشعر:
وأبلج ذي تاج أشاطت رماحنا
بمعترك بين الفوارس أقتما
هوى بين أيدي الخيل إذ فتكت به
صدور العوالي تنضح المسك والدما
لم تطل مدة بقاء شمس الدين أحمد بعد مقتل «ابن الحسين» كثيراً، لحق بعد شهرين وعشرة أيام به، ولمؤرخي الإمامة غمز ولمز في سيرته؛ بل لم يعده البعض إماماً، والسبب تخليه عن دعوته، ومبايعته لـ «الرسوليين»، ومناصرته لهم.
خلفه أخوه موسى، ليموت بعده بشهرين، فخلفهما أخوهما الحسن، فلحق بهما هو الآخر قبل أن ينتهي ذلك العام، ثم آل الأمر لصارم الدين داؤود، وكان الأخير مُتسلطاً ناكثاً للعهود، والأعجب أن تلك النهايات حدثت بالتزامن مع السقوط المُريع لـ «الخلافة العباسية» في بغداد، على يد «التتار».