بلال الطيب :
بدأ حصار صنعاء الفعلي صبيحة يوم «28 نوفمبر 1967»، بعد أن فرض «الملكيون» سيطرتهم على كافة السلاسل الجبلية المُحيطة بالعاصمة، ما أكسبهم كثيراً من الميزات التكتيكية، حيث تمكنوا من نصب مدافع بعيدة المدى على قمم تلك الجبال.
بالتزامن مع مغادرة آخر جندي مصري ميناء الحديدة، وطرد آخر جندي بريطاني من عدن «30 نوفمبر 1967»، بدأ «الملكيون» بقصف «الإذاعة، والقصر الجمهوري، وثكنات العرضي، والكهرباء» من بيت بوس، وجبل عيبان»، فيما تولت المدفعية المنصوبة على جبل الطويل في «بني حشيش» قصف «الروضة، ومصنع الغزل والنسيج، والأحياء الشمالية للمدينة، ومدرسة المظلات، ومطار الرحبة»، لتستخدم الطائرات مهبطاً صغيراً جنوب العاصمة ميدان «السبعين» حالياً.
حدثت حين ذاك عديد مواجهات أعادت الثقة بالنفس، في البدء رُدع هجوم القائد الإمامي الفريق قاسم مُنصر، وطردت قواته من «الحافة، وظهر حمير، وقرية الدجاج»، كان ضمن المشاركين في تلك المعركة بالصف الجمهوري المقدم عبدالله دارس، احتل «تبة المطلاع»، ورابط فيها حتى انتهى الحصار، وسميت من يومها باسمه.
كما قام ملكيون آخرون باحتلال جبل «النهدين»، لم يمض يوم على ذلك حتى جُمعت مجاميع قبلية وحرروا الجبل، إلا أنَّ «الملكيين» عادوا وسيطروا عليه مرة أخرى، فكانت قوات الصاعقة والمظلات هذه المرة لهم بالمرصاد.
بالتزامن مع الهجوم الملكي الأول، قام أفراد من قبيلة «بني حشيش»، يستقلون دراجات نارية، بإلقاء قنابل يدوية على المارة في «سوق الملح، وباب اليمن، وقاع العلفي»، تم القبض عليهم بعد احتجاز جميع الدراجات النارية في العاصمة، ونالوا العقاب الرادع، لهم، ولمن سولت لهم أنفسهم القيام بعمليات تخريبية مماثلة.
كانت الاستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية، التي لا يتجاوز عددها الـ «4,000» مقاتل، قائمة على مبدأ «الدفاع الضيق»، اللواء العاشر يدافع عن الجانب الغربي، وعن الجانب الشرقي ألوية العروبة والوحدة، فيما كتائب المظلات والصاعقة تَعمل باستماته كقوة ذات فعالية على كل الجبهات، ومُشكلة هذه القوات تكمن في أن أعدادها وإن مكنتها من حماية أبواب المدينة، إلا أنها تُقصر في إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المتسللين في معركة حاسمة، يضاف إلى ذلك أنَّها لم تكن ذات وحدات منتظمة ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات المعادية بنسبة «7-1».
في ظل تلك المتغيرات العاصفة، كان لا بد من تماسك الصف الجمهوري، خاصة بعد هروب «الضباط الكبار»، وقيامهم برحلة الشتاء إلى «القاهرة، وبيروت، وأسمرة»، في البدء عُين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب ذو الـ «25» ربيعاً رئيساً لهيئة الأركان «10 ديسمبر 1967»، تحت ضغط وإلحاح كبيرين من زملائه الضباط ذوي الرتب الصغيرة، كما استبدلت حكومة محسن العيني المُستقيلة، بحكومة الفريق حسن العمري «21ديسمبر 1967»، إلى جانب استمراره في مهامه قائداً أعلى للجيش، وعضواً في المجلس الجمهوري.
سبق لعمر الجاوي وهو من أبطال تلك الملحمة، أن تحدث في كتاب له بشيء من التفصيل عن هروب أولئك القادة الكبار، وهو تصرف عده كثيرون بالأمر الإيجابي، كون الهاربين تركوا المجال لضباط شباب، أثبتوا أنهم الأجدر، وكانوا إلى جانب طلاب كليتي الشرطة والحربية طليعة وطنية، وثمرة ايجابية للثورة الأم، أثرت كثيراً في مسار الأحداث.
الجاوي اتهم الفريق العمري «بأن الظروف وضعته في جو الحصار عُنوة»، وهذا باعتقاد البعض تجني على الرجل؛ لأنه عاد قبل الحصار، ولعب دوراً هاماً في قيادة المعارك، بغض النظر عن أخطاء ارتكبت فيما بعد، سوأ كانت مقصودة أو غير مقصودة.
كان الفريق العَمري قبل قرار تعينه بثلاثة أيام في منطقة «المساجد»، يشحذ همم القوات لبلوغ قمة جبل «عيبان»، تولى الرد بنفسه من إحدى الدبابات على «الملكيين» الذين بادروه بضرب كثيف، فيما جنود آخرون سارعوا لاقتحام الجبل، وحين بلغوا غايتهم تأخر الدعم، فأمر العمري الجميع بالانسحاب.
تلك اشكالية كانت تلاحق الرجل، ما أن يُتم نصرا، أو يقود هجوماً ـ كما قال عمر الجاوي ـ لا يكمله، وقد انتقده لذلك كثيرون، من ضمنهم الشيخ سنان ابو لحوم، الذي قال: «مع تقديري لشجاعة العمري، هناك بعض أخطاء قد لا يكون له ذنب فيها، فقد كان يخرج صباح كل يوم يجمع الناس، وهم يلحقونه، وآخر النهار يركن عليهم ويعود، وهم يلحقوا به».
فيما يقول الصحفي المصري مكرم محمد أحمد: «في ساحة المعركة – كان العمري يقف جندياً في الساحة، وفي مرات كثيرة اشتبك الرجل وحرسه في المعارك إلى جوار الجنود والضباط، كان ذلك يسبب الكثير من المشاكل للجيش، فرصاصة طائشة قد تصيبه في هذه الفترة الحرجة، فيكسب الملكيون قيمة واسعة، وقد يخلع ذلك تأثيره على سكان المدينة، تلك كانت رؤية الجيش، بينما كان العمري يُصر أن يتقدم الجنود وهم يحتلون جبل عيبان، ولكن العناد الذي هو سمة بارزة فيه كان يُمكنه من كسب النقاش في النهاية».
في ذات اليوم الذي أعلن فيه عن تشكيل الحكومة، حَشد «الملكيون» جميع قواتهم في المحور الجنوبي والشرقي، لغرض الاستيلاء على جبل «نُقم»، لتدور في رحاه معارك طاحنة استمرت لأكثر من أربع ساعات، وحين دخلت المواجهة إلى العمق، حصل قتال بالسلاح الأبيض، تقهقرت القوات المَلكية، وتكبدت خسائر فادحة.
بعد تلك الواقعة بثلاثة أيام، قامت مجموعتان من أفراد لواء الوحدة بعملية إغارة على القوات الملكية المتمركزة بجبل «الطويل»، تمكنتا من الوصول بعد معركة بطولية غير متكافئة، أستشهد فيها جميع المقاتلين، بعد أن فرضوا سيطرتهم على الموقع لفترة محدودة، «عامل الإشارة» كان يتكلم مع غرفة العمليات: «الأفراد قتلوا لم أبق إلا أنا وحيداً»، وأستشهد في الأخير.
أواخر «ديسمبر 1967» كانت صنعاء تعيش أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش، اجتمعوا في منزل العمري مع البقية الباقية من الوزراء، وممثلي المقاومة الشعبية، والمشايخ، لبحث عودة اللجنة الثلاثية، المطرودة سلفاً، تحت مبررات أنَّ «الملكيين» يقتربون من «عَصِـر»، والظروف العسكرية لا تـُساعد على هزيمتهم، فيما برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة، والإمدادات، والوقود، وأن سلاح الطيران لن يتحرك من الغد، وقد قوبل ذلك الاقتراح بالرفض من القيادات الشابة، والمقاومة الشعبية.
في اليوم التالي، كانت جحافل «المَلكيين» تُحكم سيطرتها على مواقع مهمة في جبل «عَصِر»، في محاولة لاجتياح العاصمة وحسم المعركة، دارت معارك ضارية، استمرت لأكثر من «48» ساعه، قتلى وجرحى كُثر سقطوا من الجانبين، هرب من تبقى من «الضباط الكبار»، فيما الفريق العمري يهدد بأن شنطته جاهزة للسفر إذا لم يُصد الهجوم، ولولا التدخل والنجدة السريعة من «قوات الصاعقة، والمقاومة الشعبية، وسلاح الطيران»، لكانت صنعاء سقطت بالفعل، لتعرض في صبيحة اليوم التالي، بعد صلاة عيد الفطر مباشرة، حوالي «20» جثة لقتلى ملكيين، في ميدان التحرير، فكانت رسالة قوية أخرست المرجفين، وأرعبت الإمامة وأنصارها.
انتهى رمضان مع دخول عام ميلادي جديد، الشتاء دخل مرحلته الأسخن، وفي «يناير 1968» قام «الجمهوريون» بثلاث محاولات كبيرة لفك طريق «صنعاء ـ تعز»، كان القادمون من مناطق «اليمن الأسفل»، بشقيهم جيش، ومقاومة شعبية، أكثر حماساً لإنقاذ الجمهورية، وفي «يسلح» اختلط الحابل بالنابل، وتبادل المتحاربون المواقع أكثر من مرة، فيما قدرت الإصابات من الجانبين بحوالي «3,000» ما بين قتيل وجريح.
تجسدت أبهى لحظات الإقدام بقيام مجموعة عسكرية باقتحام دفاعات «الملكيين»، لم تكد تصل إلى رأس «النقيل»، حتى جاءت الأوامر بالانسحاب، قلة فضلوا الموت أو الأسر على التراجع، طوقهم العدو مُركزا قصفه على دبابة وحيدة، رفض قائدها علي الشيباني الترجل منها، وتركها غنيمة، ورمى بنفسه وبها في جرف سحيق، فيما الضابط محمد السامعي قائد تلك المجموعة ظل ممسكاً بزمام رشاشه الصغير، لم تمنعه الإصابات المتوالية على جسده عن التوقف، وحين رآه زملاءه مزهواً برتبته العسكرية، طالبوه بنزعها حتى لا يُركز عليه أكثر، قال لهم: «بذلت الجهد من أجل الحصول عليها، وأريد أن أستشهد بها».
استعادت القوات الجمهورية عافيتها، تجاوزت مربع «الدفاع الضيق»، إلى مربع «الدفاع النشيط»، وبدأت بشن عمليات هجومية مباغتة، حصلت على أسلحة حديثة وأسرى، وعادت إلى مواقعها سالمة، يقول مكرم محمد أحمد: «كان الثوار يحققون كل يوم انتصاراً صغيراً، يركبون الجبال المحيطة جبلا إثر جبل، ويعودون في المساء بمجموعة من الأسلحة، يعرضونها في الميدان كلها تحمل شعار الصداقة الأمريكية، وفي بعض الأحيان كانوا يعودون ببعض الرؤوس المجزورة من العنق ليدقوها على باب اليمن»، ثم تطور الأمر إلى عمليات هجومية كاسحة، مع الاحتفاظ بالمواقع التي تم استعادتها.
مع نهاية الحصار، صرح الفريق العمري لوسائل الإعلام أن مجموع الهاونات والمدافع الصاروخية التي كانت تصلي صنعاء بحممها، تجاوز الـ «100» مدفع، فيما قدرت القذائف التي سقطت داخل العاصمة بحوالي «3,000» قذيفة، وفي حساب النقيب عبد الرقيب عبدالوهاب «رئيس هيئة الأركان»، أن «40» عملية عسكرية، هي مجموع العمليات التي جرت خلال تلك الفترة، وأتبع تصريحه بالقول: «كان علينا أن نحرز كل يوم انتصاراً صغيراً، ومن مجموع هذه الانتصارات الصغيرة، يتحسن الموقف يوماً بعد يوم، حتى نتمكن من احراز نصر كبير».
ضحايا كُثر سقطوا جراء القصف العشوائي، وكم من قذيفة تجاوزت هدفها المرصود، وطالت مواطنين أبرياء، في «باب اليمن» وصلت قذيفة، وفي «باب السباح» وصلت أخرى، وبين «البابين» افتتحت أبواب جهنم، وتوزع عشرات الضحايا ما بين قتيل وجريح، الجثث ملقاة على الأرض، والدماء تسيل فوق الاسفلت، حتى الجامع الكبير، ومدرسة البنات الوحيدة، ومنازل المواطنين المهترئة، لم يسلموا من ذلك القصف الجنوني.
لم يكد ينتهي «يناير 1968» حتى بدأ مركز «الجمهوريين» يتقوى من الجو، «30» طائرة روسية وصلت للتو، أوكلت مهمة قيادتها لطيارين يمنيين تخرجوا حديثاُ، بمساعدة طيارين «سوريين» و«روس»، كثفت القوات الجوية من هجومها، وفي «جُحانة» كان ثمة تجمع لحشود قبلية، أحد الطيارين المُستجدين رمقهم من الجو، أبلغ القيادة، تم قصفهم، كانت تلك الانتكاسة ضربة قاصمة أصابت «الملكيين» في مقتل.
القوات الجوية اليمنية التي تشكلت خلال أيام الحصار، كان لها الدور الأكبر في حسم المعركة، سجلت حضورها الفاعل خلال المعارك الأخيرة، أوكل إليها تنفيذ مهام عسكرية ضد تجمعات «الملكيين» ومرتزقتهم، وملاحقتهم، ومراقبة تحركاتهم، بالإضافة إلى تأمين وصول التموين العسكري والغذائي لأبطال الحصار، ورغم الأحوال الجوية السيئة، أدى الطيارون اليمنيون مهامهم باقتدار فائق، وسقط منهم ثلاثة شهداء، وشهيد سوري.
حَلَّ «شُباط ـ فبراير 1968»، بدأت بوادر الحسم تلوح في الأفق، ومن«3 إلى 8» من ذات الشهر، كانت معارك «عيبان» الأخيرة تحجز صفحاتها بزهو في كتب التاريخ، كطرفي كماشة، وتحت ستار كثيف من الضباب، وزخات خفيفة من المطر، أطبقت حشود النصر على القوات الملكية المتمركزة هناك، قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية قوامها «5,000» مقاتل، بقيادة أحمد عبد ربه العوضي، مسنودة بسلاح الطيران.
كغير العادة كان صباح «8 فبراير 1968» زاهياً مُشرقاً، تحطمت فيه متارس «الملكيين»، وفروا تاركين مئات القتلى، وعشرات المدافع، وفي «متنه» التحمت قوتا النصر، شاع الخبر فتوافدت الجماهير مُحتفية، أعتلا الفريق العمري إحدى الدبابات، مقدماً الشيخ العواضي بطلاً للنصر، مُنهياً خلاف استمر لشهور بين الرجلين.
واصل الشيخ العواضي مسيره وقواته صوب صنعاء، دخلوها دخول الفاتحين، بعد أن قصفوا المواقع الملكية في «بيت بوس، وأرتل، وحدة»، فيما تمركزت القوات القادمة من صنعاء، في جبل «عيبان»، والمناطق التي تمت السيطرة عليها.
«أربعينياتُنا فيها رَفَضْنا، وضُحى سبتمبرٍ فيه رَفَضْنا، ومـدى السبعيـين يوماً قد رفضنا، وسنمضي رافضـين»، صنعاء العصية على السقوط أصبحت مدينة مفتوحة، تلاشت من حولها كمائن «الونيت»، وحمم «الهوزر» و«الهاون»، وطغت على الجميع نشوة احتفاء بنصر حاسم واستثنائي، قال أحدهم إنه يشبه موقعة «الخندق» حين تبددت تحالفات القضاء على هذا الدين، وقال آخر إنه يشبه حصار «لينغراد» حين انحسرت قوة نازية كبرى كانت تجتاح العالم دون توقف، أحس داعمو التخلف أنَّ روح الثورة قد تتجاوزهم، فبادروا إلى حلول لم ترضي المُنتصرين، إلا أنها حقنت الدمـاء.