بلال الطيب :
حق على الداخل إلى «شرعب»، عبر بوابتها الجنوبية، أن يُعلن تشاؤمه، ليس من الاسم «شرّ ـ رعب»؛ بل من «المقلب ـ المحرقة»؛ حيث تتجمع نفايات مدينة، مثيرة هالة دخانية قاتمة، مصحوبة برائحة عفنة تكتم الأنفاس، فيما أسراب من «النسور» و«الغربان» تحلّق بكثافة، تسلل إلى نفسي حينها شيء من الخوف؛ فتلك الطيور تحلق أيضاً فوق جثث الضحايا.
تجاوزنا «المقلب»، واجتازت السيارة بنا سفوح «شرعب»، استقبلتنا هالة مُنعشة من السكون، ممزوجة برائحة البن واريج الحقول، لحظتها قلت لرفقاء الرحلة: يبدو أن محرقة النفايات تلك، عُملت خصيصاً كي تحرس «شرعب» من شرِّ كل حاسد، وربما معتد.
مضت السيارة ذات الدفع الرباعي بنا الهوينا، اقتربنا من «الرونة»، مركز المديرية، حيث الإسفلت أبى أن يكمل مسيره، لم يبخل سائق السيارة في تسهيل مهمتي، ولم تتوقف «سبابته» بالإشارة يمنة ويسرة، وفوق وتحت، فجميع تلك المناطق كانت ـ حد وصفه ـ تابعة لعناصر «الجبهة»، مستثنياً قمة جبل «الحريم»، حامي «الرونة» من الخلف.
كان هدفي استقراء جزء من تاريخ «شرعب»، غير البعيد، المخبوء في ذاكرة المكان قبل الإنسان، والاكتفاء بأخذ عينة لـ «شواهد» باكية، تختزل أحداث «الجبهة» ومآسيها الدامية، كعنوان عريض، لصراع غبي يتجدد، ممتد فوق خارطة مفخخة، وكأنه قدرنا نحن اليمنيين، أن نظل نتحارب فيما بيننا نيابة عن الآخرين، وحتى قيام الساعة.
دارت رحى المواجهات في أغلب قرى وعزل «شرعب»، اكتوى بنارها آلاف الأبرياء، مئات منهم قضوا نحبهم، فيما عشرات من اليتامى، والأرامل، والمعاقين، تركوا وحيدين بلا عائل، أو سائل، كانت الأجواء ملبدة بالخوف والتوجس، والنفوس مشحونة بالتخوين والتربص، والجبال مكتظة بالكهوف والمتارس، «الجبهة» تستقطب الشباب المتحمس، وتغريه بالسلاح الجديد، والوظائف، و«الدولة» تقف إلى جانب المشايخ، تنصرهم تارة، وتخذلهم تارة أخرى.
تجاوزنا مركز المديرية «الرونة» بكثير، حتى وطأت أقدامنا «النوبة»، اعلى قمة في هيجة «قبير أعلى»، «شرعب» من كل الاتجاهات تحاصرنا، تبوح بألقها، مآثر ماضيها الجبهوي عالق في كل شيء، فعلى امتداد البصر شمالاً تبدو قمة جبل «رهيد»، المرتفع الشاهق، منه أطلق الضحايا شهقتهم الأخيرة، وانصرفوا إلى غير رجعة.
«من أجل السيادة للوطن، والوحدة لليمن، والديمقراطية للشعب، ناضلنا، وضحينا، وأقسمنا أننا لن نرتاح، ولن نراح، ولن نترك السلاح، ولن نخفض الجناح، حتى يرفرف علم اليمن الديمقراطي الموحد، خفاقاً، عالياً، يخترق السماء»، شعار طموح، وقسم ملتهب، أطلقه «الرفاق» قديماً، وأعاده على مسامعي سرحان سعيد سيف، أحد رجالات «الجبهة» الفارعين، التقيته في عمق «شرعب»، فتعمق أكثر في تفاصيل كانت غائبة.
في العام «1976» انضم «سرحان» إلى «الجبهة»، شاباً فتياً، مقداماً، أدرك قادته ذلك، فأرسلوه صوب «عدن»، تلقى عديد دورات عسكرية، عززت قدراته القتالية، «800» شلن هي جل ما تقاضاه مقابل نضاله الغامض ذاك، صرفت له بعد أن أنهى دراسته، «غير ذلك ما فيش»، هكذا أضاف؛ فقد كان يقاتل لهدف، والمادية حسب وصفه بعيدة كل البعد عن قناعته الشخصية.
أسندت إلى «سرحان» في جبال «شرعب»، مهام قيادة المدفعية، التي ظل دويها ـ حد وصفه ـ يحرس الأرجاء من الرجعيين والعملاء، يقول: كانت «شرعب» تحت أيدينا، ولم يكن للقوات الحكومية وجود، إلا في «الظاهر» و«السويداء»، وكان لدينا أنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر، تصلنا عن طريق «الوازعية» و«ماوية»، مهربة من الجنوب، أو عبر سماسرة النظام.
لا ينكر «سرحان» وجود جوانب سلبية رافقت نضالهم، فقد انخرط في صفوفهم المفتوحة أناس لا علاقة لهم بما يدور، «مقاضاة أغراض»، حدثت بسببهم أخطاء فادحة، وتصفيات جانبية، طالت أناساً أبرياء، ليس لهم في الأمر ناقة ولا جمل.
سألت «سرحان» عن شعوره ورفقته بعد ما تمت المصالحة، وعفا عنهم الرئيس علي عبدالله صالح، رمقني بنظرة ازدراء؛ وخاطبني بلكنة شرعبية شديدة: «مه مه.. عفا عنا؛ إحنا اللي عفينا عنه».
هنا يضحك مشير محمد قاسم، ثم مضى هذا الأخير يحدثني بكل ما أوتي من فخر واعتزاز عن ماضي «الجبهة» المشرق، فحكمها ـ حسب وصفه ـ كان مبنياً على المساواة والعدالة الاجتماعية، ولديها مشاريع وإنجازات ماثلة للعيان، بنت مدرسة الفلاح في «قبير أسفل»، ومدرسة الأيتام «قبير أعلى»، ومدرسة النصر في «الحرية»، ومدرسة أخرى في «الملاوحة»، وشقت طريق «بني سري»، وغير ذلك الكثير.
نحن اليمنيون لم نكن نُدرك أهمية الصورة، كشاهد مهم على تفاصيل حياتنا، وحده عبد الحميد حمود «67» عاماً أدرك ذلك، ولكن بأسلوب مختلف؛ «عبد الحميد» لديه صورة حية، عالية الدقة، أكثر من ثلاثة عقود مضت وملامحها الرئيسة لم تتغير، منزل قديم مُفعم بالسكنى، وثلاثة أركان وركام، رسمتها ببلادة قذيفة من مدفع حكومي أخطأ هدفه ذات مساء، الصورة ليست ثلاثية الأبعاد، إلا أن الجميع هناك في «قبير أعلى»، يتأملها، يُصغي لتفاصيلها، يستعيد من خلالها أحداثاً أبت أن تغيب عن الذاكرة.
إذا كانت «حفظان»، وهي هضبة جبلية ممتدة على يمين الجزء الترابي من طريق «تعز ـ الرونة»، قد حظيت قمتها بجثمان أول القتلى، وهو شخص لم أجد له اسماً، حسب معلومة يتيمة أوردها أحدهم، إلا أن عبدالجليل العبيدي، فندها بالقول: أن مليشيات «الجبهة»، اعترضت موكب مدير المديرية عبدالسلام عبدالله عثمان، في منطقة «خواله»، عزلة «بني سليم»، أنفجر أحد المدافع الحكومية في منطقة «اللفج»، ومن بين الضحايا كان المواطن سلطان هزبر محمد، فيما عقب آخر، بأن الشيخان علي عبده سرحان، وأحمد عبدالله نائف، هما أول الضحايا، وليس «هذا» أو «ذاك».
«العبيدي» يتذكر جيداً مقتل الشيخ عبدالجليل نصر، في منطقة «الشجابي»، على خط «بني الحسام»، ومقتل عبده قاسم، ومحمد حسن، اللذين نزلا من منطقتهم الجبلية «رهيد»، لمقابلة أبويهما في «الملاوحة»، فعاقبتهم «الجبهة» بفصل رأسيهما عن جسديهما، كما أشار إلى أن مليشيات «الجبهة» أساءت لمن أحسن إليهم، مذكراً بقصة منصور قائد شيخ «الأشاعر»، من جبل «الرازي»، كان يؤكلهم السمن العسل، وفي النهاية رموا به من قمة جبل «شحاره».
وأضاف «العبيدي»، أن عدد الضحايا في منطقته «بني مرير»، وصل نحو «14» قتيلاً، وامرأة واحدة، بالإضافة إلى خمسة جرحى، ثلاثة مشوهين واثنان بُـترت سيقانهما، وحول أسوأ حادثة لا زالت عالقة في ذاكرته، قال: كان هناك شاب يلقب بـ «ابن قحطان»، وهو ضابط يدرس بإحدى الكليات العسكرية في «صنعاء»، عاد حينها إلى قريته في «بني زياد»، لزيارة أهله وزوجته التي لم يمض على زواجه منها غير أربعة أشهر، «طب» عليه أفراد من «الجبهة»، اعتقلوه، وفي نفس الليلة قتلوه.
عبدالله سفيان، شيخ عزلة «بني زياد»، القريبة من سوق «الحرية»، المعقل الرئيسي لـ «الجبهة»، والتي منها انطلقت إلى باقي مناطق «شرعب»، أفاد أن عدد ضحايا منطقته، وصل نحو «12» قتيلاً، من ضمنهم ثلاث نساء، وطفل يدعى صالح فرحان، وشيخ يدعى أمين قحطان، وأكد أنه شاهد بأم عينيه، مصرع نعمه علي «12» سنه، ورحمه قاسم نصر «15» سنه، وعبدالقوي عبده طاهر، بألغام زرعتها مليشيات «الجبهة».
أمتنع «سفيان» عن دعم «الجبهة» ومساندتها، أهدرت دمه، هرب إلى «السعودية»، ظل فيها أربع سنوات، تخللتها فواصل عودة مُحزنة، وصل في إحداها مع إحدى الحملات العسكرية، إلى موقع مطل على قريته، كان بينه وبين منزله مرمى حجر، إلا أنه كان أبعد عنه من حدود الشمس، والأسوأ من ذلك، رؤيته لزوجته واولاده، دون أن يلتقيهم.
صحيح أن أيام «الجبهة» ولت دون رجعة، إلا أن مآسيها الثقال لم تفارق ذاكرة من عايشها، هنا يسترجع محمد عبدالعزيز الكامل، ذلك الوجع، وفقد الأحبة، وليالي الشتات، خاض مع والده غمار المواجهة، فدفعت أسرته لوحدها ثمانية قتلى، لم يغب عن باله لحظة أن يكون تاسعهم.
هاجمت مليشيات «الجبهة» بلدته «الأمجود»، مطلع العام «1978»، قتلت عبدالله محمد العزي، وعبده اسماعيل يوسف، ثم اغتالت شقيقه «عبدالحميد»، ومرافقه طاهر علي يوسف، وفي سوق «الحرية» حاصرت والده شيخ المنطقة، أصابته في ركبته، وقتلت عمه «مقبل»، ومارش قاسم عبده، ومحمد عثمان العسالي، وقائد بن قائد محمد، ودماج حسن أحمد.
وفي بداية العام التالي، حاصرت مليشيات «الجبهة» قريته، بقيادة عبدالله عبداللطيف، الملقب بـ «غمدان»، قصفت البيوت بالرشاشات الثقيلة، وقتلت شقيقاه «عبدالقوي» و«مهيوب»، وأولاد أخيه «محمد»، و«علي»، وابن عمه عبدالله مقبل، وعبده محمد فرحان، ومهيوب علي أحمد، وولده «قائد»، ويوسف اسماعيل، وأولاده «أحمد»، و«اسماعيل»، و«فرحان»، ومحمد محمد بجاش، واسرة مهيوب بجاش، وقائد عبده أحمد، وعبدالمجيد عبدالرحمن، ومحمد أحمد يوسف، وقاسم أحمد، ومحمد سعيد السعادي، وقائد سعيد هزبر.
«الكامل» أفاد أيضاً، أن أفراد من «الجبهة»، اقتحموا في اليوم الثالث منزله، هدموه، واعتقلوا صديقاه محمد عبده صالح، وقائد مهيوب علي، ودفنوهم أحياء؛ لينجوا منهم بأعجوبة، فيما كان مصيره وباقي أفراد أسرته، التشرد، والنزوح إلى مدينة تعز.
خرجت حملة عسكرية حكومية إلى جبل «الصنع ـ أمجود»، لأخذ الثأر، كان «الكامل» وعدداً كبيراً من أفراد منطقته، والمناطق المجاورة برفقتها، تركتهم الحملة؛ فسقط الموقع بعد خمسة أشهر بيد «الجبهة»، وقتل من أصحابه، محمد عبده يوسف، وعبدالواحد عبدالحميد النور، جهزت السلطات حملة عسكرية ثانية، بقيادة الرائد حميد الحميري، ليلقى الأخير وثلاثة من مرافقيه مصرعهم بكمين غادر، وفي ذات الجبل قامت المليشيا بتكبيل سبعة مواطنين بقيد واحد، رمتهم من على ذلك المرتفع الشاهق، فوصلوا جثثاً هامدة، بوجوه بلا ملامح.
وختم «الكامل» حديثه بالقول: أن مليشيات «الجبهة»، سيطرت بعد تلك الجريمة المروعة على جبل «بني سري»، جاءتهم التوجيهات حينها بالتوجه لنجدة الشيخ محمد طاهر عامر، وبعد سبعة أشهر من المواجهات، استعادوا الجبل، ولكن بعد أن خسروا عبدالحميد قائد قاسم، وعدد كبير من أبناء تلك المنطقة.
وعن آخر المواجهات، حدثني صدام علي محمد، أنها حدثت في منطقة «الشحنة»، وذلك منتصف العام «1982»، حوصر حينها مدير الناحية حزام مغلس، وحوصرت القوات الحكومية، ودارت مواجهات شرسة، سقط فيها قتلى وجرحى كُثر من الجانبين، انسحبت بعدها القوات الحكومية، وتم إخراج مدير الناحية إلى مدينة تعز بسلام.
أمام هذا الكم الهائل من المعلومات، والتي لم استطع ترتيبها زمنياً، أختم بمرحلة المصالحة، ومقدم المقدم علي ناصر شويط، الذي شطر «شرعب» إلى نصفين، وأسمى نصفها الآخر بـ «شرعب السلام» بعد أن ضم إليها مناطق من «التعزية».
يقول عبدالجليل العبيدي: وصل «شويط» ومعه حوالي «3,000» مقاتل، أغلبهم جيش شعبي، التقى بأفراد من «الجبهة»، وبقائدهم حمود الحاج محمد مسعد شريان، واستمع لمطالبهم، وبعدها حصلت المصالحة، وكنا حينها نردد:
يا هلا ومرحبا وازن جبل عيبان
بالمقدم شويط وارحب إلى شرعب
من جهته مشير محمد قاسم، «سكرتير منظمة قاعدية للحزب الاشتراكي»، أكد أن المصالحة ما حدثت إلا بعد أن رضخت الدولة لمطالبهم، التزم حينها أفراد «الجبهة» بالاتفاق، وتركوا مواقعهم في الجبال، وسلموا أسلحتهم الثقيلة للدولة، وأضاف: أن الجانب الحكومي تنكر للمصالحة، ومع تداخل المواقع العسكرية والقرى حدثت كثير من الانتهاكات، وكان العساكر يرعبون الأطفال، ويتحرشون بالنساء، وينهبون البيوت، ويأخذون الطلاب من المدارس، يجندوهم ويرسلوهم إلى «العراق» يقاتلون «إيران»؛ وختم «مشير» حديثه: «حتى ماطور الكهرباء، الذي كان يغطي نصف شرعب؛ لم يسلم من عبثهم، أخذوه، وتركونا في الظلمة لحد اليوم».
# صحيفتي الجمهورية، وحديث المدينة (مايو 2009)