هدد انقسام الجهاز المصرفي في اليمن نشاط المصارف التجارية والإسلامية التي باتت حائرة بين سلطتين نقديتين وبنكين مركزيين، وأصبحت مهددة بالتوقف وإغلاق مقارها بعد مرور أربعة اعوام على الحرب الدائرة في البلاد بين الحكومة الشرعية المدعومة من “التحالف” والمتمردين الحوثيين.
وكافحت المصارف من أجل استمرار نشاطها في البلاد، وأعلن بعضها عن تحقيق أرباح رغم الحرب، لكن اشتداد الصراع حول البنك المركزي منذ منتصف العام الماضي يضع المصارف تحت ضغوط جديدة، ويجعل من الصعب استمرار عملها كما كان في السابق، حين شمل غالبية مناطق البلاد.
ويتصارع طرفا الحرب في اليمن على الإيرادات العامة القليلة، في حروب اقتصادية بدأت عام 2016، مع إعلان القرار الحكومي بنقل البنك المركزي إلى عدن، بعدما وصل إلى مرحلة العجز عن تغطية الاعتمادات المستندية لاستيراد السلع.
وظل البنك المركزي في عدن معطلاً، وتحولت مهامه إلى شركات الصرافة التي لعبت دوراً رئيساً من خلال تغطية احتياجات التجار من تمويلات الائتمان والتحويلات الخارجية لاستيراد السلع والأدوية، لكن البنك أعلن في وقت سابق من سبتمبر/ أيلول 2018، استئناف تمويل واردات السلع الأساسية بالاستفادة من وديعة سعودية بملياري دولار.
وردت سلطات الحوثيين على قرار المركزي اليمني استئناف تمويل الواردات، بتحذير التجار من التعامل مع البنك المركزي في عدن، والتلويح بفرض غرامات على المخالفين الذين سيثبت تعاملهم مع الحكومة، كما تعهدت بتوفير العملة الصعبة لهم لتغطية فاتورة الاستيراد، وفق بيان نشرته وكالة الأنباء اليمنية في نسختها الخاضعة للحوثيين.
في المقابل، قررت الحكومة الشرعية في التاسع من سبتمبر/ أيلول الماضي، منع دخول السفن التي تنقل سلعاً ومشتقات نفطية ولا تحمل اعتمادات منها أو تحصيلات وحوالات مستندية عبر البنك المركزي اليمني في عدن.
وبين صنعاء وعدن، ظلت المصارف تحت تأثيرات الصدام بين السلطتين والمصرفين المركزيين بشأن الإنفاق وسياسات المصارف والعملة… وأخيراً، الاعتمادات المستندية المخصصة لتمويل الواردات الخارجية.
وكانت عملية بناء قدرات البنك المركزي اليمني في عدن بما يمكّنه من أداء وظائفه البديهية، بطيئة وشاقة.
واستمرت حالة الضعف حتى العام 2018، حين بدأ البنك بإثبات نفسه من خلال محاولة تنفيذ سياسات نقدية ذات مغزى. ومع ذلك، عمل فرع البنك في صنعاء وسلطات الحوثيين على تقويض المراسيم الاقتصادية الجديدة الصادرة من عدن، بحسب تقرير اقتصادي صدر أخيراً.
وأوضح تقرير صادر عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية – اطلعت عليه “العربي الجديد”، أنه خلال معظم عام 2018، سعت سلطات الحوثيين إلى تقويض السياسات التي تضعها الحكومة اليمنية وبنكها المركزي.
وقال التقرير الصادر مطلع فبراير/ شباط الحالي: “على سبيل المثال، عندما بدأ البنك المركزي في عدن توزيع أوراق نقدية جديدة من فئة 500 ريال و1000 ريال، قامت سلطات الحوثيين في فبراير/ شباط 2018، بحظر تداول هذه الأوراق في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وفي عام 2018، تكثفت حملات سلطات الحوثيين لتنفيذ هذا الحظر”.
ووفقاً للتقرير: “عندما أصدرت الحكومة المرسوم رقم 75، مع تعليمات جديدة بشأن واردات الوقود تعد تهديداً للمستوردين المقربين من سلطات الحوثيين، هددت الأخيرة المصارف التجارية في صنعاء بالانتقام، بما في ذلك حبس كبار موظفيها، في حال التزموا بمراسيم الحكومة.
وبما أن جميع المصارف التجارية السبعة عشر في اليمن، باستثناء واحد منها، يتخذ من صنعاء مقراً رئيساً له، فإن سلطات الحوثيين تتمتع بنفوذ كبير للضغط على هذه المصارف”.
وأمر فرع البنك المركزي بصنعاء، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، المصارف التجارية باستخدام الشيكات بدلاً من النقود لتغطية خطابات الاعتماد الخاصة بالواردات، ويتناقض هذا الأمر مع قرار البنك المركزي بعدن، والذي كان يأمر بتوريد قيمة خطابات الاعتماد الخاصة بالاستيراد نقداً.
وتهدف جهود سلطات الحوثيين إلى منع نقل السيولة النقدية المادية إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وفق مصادر الـ “العربي الجديد”.
وأصدرت سلطات الحوثيين، في ديسمبر/ كانون الأول 2018 تعليمات جديدة تحظر على المصارف تحويل مبالغ تتجاوز 450,000 ريال يمني، من صنعاء إلى عدن من دون موافقة مسبقة من البنك المركزي في صنعاء. ومع ذلك، أشارت مصادر في القطاع المصرفي إلى استمرار تحويل الأموال عبر شبكات غير رسمية.
وأوضح الخبير في المالية العامة فكري عبد الواحد، أن اشتراط البنك المركزي على التجار توريد قيمة الواردات بالعملة المحلية غرضه سحب السيولة من مناطق الحوثيين والحد من تلاعبهم ومضاربتهم في العملات الأجنبية.
وقال لـ “العربي الجديد” إن “الحوثيين لن يستطيعوا الاستمرار طويلاً في توفير العملة الصعبة لتمويل الواردات، لكنهم بإجراءاتهم يدفعون العملة المحلية إلى الانهيار والقطاع المصرفي إلى الهاوية”.
ولا تزال المقرات الرئيسية للمصارف في العاصمة صنعاء الخاضعة للحوثيين، فيما دعت الحكومة جميع المصارف التجارية والإسلامية العاملة في البلاد إلى نقل مقراتها الرئيسية نحو العاصمة المؤقتة عدن حيث مقر الحكومة (جنوب البلاد).
وتواجه المصارف صعوبات كبيرة في نقل نشاطها من صنعاء كما تواجه عقبات في نقل الأموال بين فروعها نتيجة الاضطرابات الأمنية والمخاوف من حدوث عمليات سطو مسلح، وفقاً لمسؤول في مصرف تجاري تحدث لـ “العربي الجديد”.
واستطاع واحد من 17 مصرفاً عاملاً في اليمن التغلب على الصعوبات، وأعلن مصرف التضامن الإسلامي الدولي خلال نوفمبر/ تشرين الثاني عن نقل مقره الرئيس وإدارته إلى العاصمة المؤقتة عدن. وعلى خلفية هذا القرار يتعرض فرع المصرف في العاصمة صنعاء لمضايقات مستمرة من سلطات الحوثيين.
محمد زمام محافظ البنك المركزي اليمني أكد في تصريح مقتضب لـ “العربي الجديد” أن البنك المركزي ترك حرية القرار للمصارف نفسها في البقاء بالعاصمة صنعاء أو نقل مقراتها الرئيسية إلى عدن.
لكن مسؤولا في اللجنة الاقتصادية التابعة للرئاسة اليمنية، أكد أن نقل مقرات المصارف الى عدن ليس بتلك السهولة التي يتصورها البعض، وقال لـ “العربي الجديد” إن “البنك المركزي سبق وطالب المصارف بنقل مراكزها المالية وإداراتها الى عدن. ولكن هذا الأمر يرجع إلى المصارف وقدرتها على الحركة في ضوء الالتزامات التي عليها للجمهور في كل المحافظات وعلى اعتبار أن الكتلة الكبيرة من المتعاملين والحركة هي في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون”.
وأكد المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن الحكومة تحاول الضغط من خلال المنظمات الدولية والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على الحوثيين لوقف تعسفهم تجاه المصارف والمؤسسات ورجال الأعمال في مناطقهم.
وقامت سلطات الأمن التابعة للحوثيين بتضييق الخناق على المصارف الأسبوع الماضي، واحتجزت موظفين كبارا في مصرف التضامن الإسلامي الدولي، وهو من أكبر المؤسسات المالية الخاصة في البلاد، كما بدأت عمليات ابتزاز لمصرف اليمن الدولي وهو مصرف تجاري خاص تأسس نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
واتهمت مصلحة الضرائب الموالية للحوثيين، منتصف فبراير/ شباط الحالي، مصرف اليمن الدولي بالتهرب الضريبي خلال العشر سنوات الماضية وبتقديم بيانات غير صحيحة وفقاً لوثيقة اطلعت عليها “العربي الجديد”، وشكلت المصلحة فريقاً من 26 شخصاً يمتلكون صفة الضبطية القضائية لإجراء عمليات التدقيق للبيانات والمستندات والحسابات الختامية منذ بدء النشاط وحتى 2016.
وأكد مسؤول في مصرف اليمن الدولي لـ “العربي الجديد” أن اللجنة المشكلة من الحوثيين بشأن الضرائب اجتمعت مع قيادة المصرف وتم الاتفاق على موافاتهم بما طلبوا من حسابات، وقال: “رغم تجاوب المصرف لكن إجراء مثل هذا يعتبر غير قانوني لأنه تم إغلاق حسابات السنوات الماضية وتمت المراجعة والسداد في حينه”.
الخبير الاقتصادي اليمني مصطفى نصر اعتبر أن المطالبة ببيانات ضريبية لسنوات سابقة من المصارف تشير بوضوح إلى عملية ابتزاز، وشرح لـ “العربي الجديد”: “من المعروف أن حسابات المصارف تدققها شركات محاسبة معروفة وتقدم سنويا إلى البنك المركزي”.
وطالبت اللجنة الرباعية بشأن اليمن، في 13 فبراير/ شباط، الحوثيين بوقف تدخلاتهم في أعمال المصارف، وأهابت بحكومة اليمن الاستمرار في إصدار خطابات الاعتماد لجميع مستوردي الأغذية الرئيسيين، لجعل العملية أسرع وأكثر وضوحاً.
وتطرق بيان صدر عن اجتماع عقد في وارسو إلى الأنباء التي وردت مؤخراً عن “التدخل غير القانوني في العمليات المصرفية لعدد من المصارف المحلية في صنعاء، واختصاصات موظفي المصارف”.
ويتكون القطاع المصرفي في اليمن من 17 مصرفاً تجارياً، منها أربعة مصارف إسلامية، وتتسم السوق المصرفية في اليمن بتركزها حيث تمتلك أربعة مصارف حوالي 59 في المائة من إجمالي عدد فروع المصارف.
وعلى المستوى الجغرافي تستحوذ خمس محافظات على حوالي 74 في المائة من إجمالي عدد فروع المصارف العاملة في اليمن، وفقاً لوزارة التخطيط اليمنية.
ويشهد اليمن حرباً مدمرة بدأت في سبتمبر/أيلول من عام 2014، بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء ومؤسسات الدولة، وتصاعدت وتيرة الصراع منذ مارس/آذار 2015 مع دخول السعودية والإمارات في حرب اليمن.
وتسبب تعقيد المشهد السياسي بتهاوي العملة المحلية وارتفاع أسعار الموادّ الغذائية والوقود، وارتفاع معدلات البطالة، وأصبح أكثر من نصف سكان اليمن يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
وقدّر تقرير حكومي يمني اطلعت عليه “العربي الجديد”، أن خسائر الناتج المحلي الإجمالي بلغت نحو 50 مليار دولار حتى نهاية عام 2018، نتيجة الحرب، وتعثّر إنتاج وتصدير النفط والغاز، بالإضافة إلى إغلاق بعض المنافذ وتقييد التجارة الخارجية.