حسن عبد الوارث
كانت ثمة مدينة اسمها “عدن”.
نعم ، كانت … فالمدينة التي أرى اليوم ليست هي المدينة التي عرفتُ يوماً ، وكانت تُعرف بذاك الاسم . كان ذلك في زمنٍ مضى . زمنٍ كله أيامٌ حلوة وأوقاتٌ خصبة وذكرياتٌ جميلة.
وعدن التي كانت .. كانت مدينة بكل معنى الكلمة.
مدينة ينام أهلها ليلاً وأبواب بيوتهم مُشرعة للريح والبخور .. أو ينام بعضهم على الأرصفة وفي الميادين وملاعب الكرة هرباً من الحرّ الشديد والقيظ البليد .. ثم يصحون على صباحٍ ينضح بالسكينة والسلامة.
عدن التي عرفتُ في ما مضى كانت مدينة يتوضَّأ أهلها بالتعايش والتسامح والكرم والنبل والرضا والقناعة .. لا يعرفون الحقد والحسد والضغينة ، ولا يفقهون حرفاً في كتاب التمييز أو قاموس العنصرية .. واذا كان ثمة أبسط من البساطة فهُم.
كانت الحافة في عدن فسيفساء عجيبة وبديعة وراقية من الأديان والمذاهب والأعراق والمناطق واللهجات والطبائع والصفات والمناقب .. يسكنها أفقر الفقراء والمستور بحفظ الله وذاك الذي فتح عليه الرزاق الوهاب .. حتى الرئيس أوالوزير الذي خرج منها ، لم يخرج قط من جلدها.
وكانت السكين في يد شخص يسير في الشارع سلاحاً خطيراً ومشروع جريمة قتل مع سبق الاصرار ، أما المسدس فلا يحمله غير رجل أمن أو ضابط في الجيش ، ولا يستخدمه الاَّ بأمر القانون ، وفي ظرفٍ قهري لا يقبل التأويل.
وكانت أُمّ الفُل وأبو العَتَر وأُمّ الخمير وأبو الثريب وأُمّ الزعقة وأبو التمبل هم أبطال الشاشة في مدينة حُبلى بأبطال الحياة اليومية البسيطة ، من كل المستويات الفئوية والثقافية التي تندرح كلها تحت طبقتين لا ثالثَ لهما : البروليتاريا والوسطى . أما ” الهاي لايف ” فرئيس الدولة شخصياً لا ينتمي اليها ، ولا أكبر تاجر أو مقاول.
– ماذا ؟ .. أ تراني أكذب أم أُبالغ؟
اذن ، سَلْ كل من عاش فيها خلال الزمن الممتد منذ الثلاثينات حتى الثمانينات.
سَلْهُ عن عدن اليوم : هل هي عدن التي تعرفها ؟ … ولا تنتظر اجابته ، بل اقرأ كلام الدموع في عينيه ، فهي أصدق اجابة.
ستقول لك تلك العيون الغرقى بالدموع أن عدناً لم تطرد يوماً لاجئاً اليها من أيّ جنس أو عرق أو دين أو لون ، ناهيك عن أبناء الجنس والعرق والدين واللون نفسه الذي تحمله عدن.
ستقول لك ما سبب تسميتها التاريخية بأُمّ المساكين .. وستقول لك أن الجار في الحافة لم يكن يهتم من أية قرية تدحرج جاره الى عدن .. وما اذا كان ينطق القاف جيماً أو الجيم ياءً أو الغين قافاُ أو العكس .. أو يضُم في صلاته أو يُسربِل ، أو لا يُصلّي أصلاً صلاة المسلمين.
ستقول لك أن أحداً لم يجُع يوماً في عدن ، وأن المائدة كانت واحدة في الحافة .. وأن الفرحة واحدة ، والمأتم واحداً .. وأن لا أبواب بين البيوت ، ولا قضبان بين القلوب ، ولا ترجمة بين المشاعر ، فتلك اللغة لم تكن حينها في أدنى حاجة الى مترجم.
– أما زلتَ تتهمني بالكذب أو المبالغة؟
أوكّيه . ستردّ عليك عجائز عدن وشيوبة الحوافي .. ستردّ عليك ذرّات التراب في كل زغطوط من زغاطيطها.
ستقول لك أن عدن اليوم ليست عدن!
عدن اليوم لم تخرج من بركان وتتدلّى صوب البحر ، انما خرجت من بالوعة طفحت على البحر.
عدن اليوم يا هذا هي مدينة أخرى لا علاقة لها بالمدينة التي عرفها وسكنها وعاشها كل هؤلاء وأولئك.
اليوم، ليس ثمة عدن في عدن!