بقلم: د.مروان الغفوري
ما كتبته قبل يومين، عن وباء كورونا في صنعاء، أثار فزعا لدى شريحة من الناس، وجدلا على مستويات مختلفة. دارت المقالة خلال أكثر من ميديا، وقابلها صحفيون وناشطون يمنيون بالسخرية والتندر (قمت بحظر العديد منهم)، وآخرون أجروا حولها نقاشا.
كنت شاهد عيان:
تابعت حالة حرجة عن بعد، لمريض. عند مرحلة معينة (طبقا لمجموعة من القيم الإكلينيكية) اقترح المعالجون
تحليلا لفيروس كورونا. جاء الرد: خال من انفلونزا الخنازير. وهكذا واصلنا التشاور حول الحالة المرضية المعقدة بعد أن تأكدنا، بالغصب، أنها لا تعاني من انفلونزا الخنازير!
وقبل يومين دخل شاب وأخته إلى طوارئ الثورة، صنعاء، بنفس الأعراض: حمى شديدة وتدهور متزايد في وظائف الرئة
(ملحوظة: قدمت جامعة ميونخ ثلاثة معايير أساسية للاشتباه: حرارة أكثر من 37.3, نقص في الخلايا البيضاء (نسبي أو مطلق)، وصورة التهابية معينة في الأشعة المقطعية. هذه المعايير لا تحسم التشخيص لكنها تضع المريض في مجموعة الاحتمال الأعلى، وتنصح بعزله والتعامل معه كما لو أنه مصاب. إذ أن غالبية الشعوب تعاني من قلة الإمكانات التقنية للفحص، حتى في البلدان المتقدمة).
أحيل الشاب وأخته إلى طريق انفلونزا الخنازير..
وبالأمس كتب طبيب عناية مركزة في صنعاء عن ثمانية مرضى ماتوا بانهيار في وظيفة الرئة خلال ال ٤٨ ساعة الماضية.
ألمح إلى إن جهات ذات سلطة تجبرهم على التعامل مع الحالات المشتبهة بوصفها انفلونزا الخنازير. وتساءل، وهو بلا شك يعرف المسافة بين الوباءين، ما إذا كان هناك من يصدق أن تلك صورة مرضية لانفلونزا الخنازير!
عدت إلى صفحة الطبيب فوجدتها قد اختفت.
تصلنا الرسائل على مدار اليوم من صنعاء، من المشافي والاستشاريين وأطباء العناية المركزة (مش من صاحبي وصاحبتي، كما يسوق كثيرون حججهم) .. ثمة رائحة كريهة في صنعاء، وعلى السلطات أن لا تجازف بحياة مجتمع بأكمله.
بالأمس دشنت فورين أفيرز تقريرها المروع عن احتمالات وباء كورونا في العالم الفقير بهذه الجملة:
وقت قصير، ربما، هو ما تحتاجه القطرات لتصبح سيلا.
نعم، بمقدور الناس فعل شيء حقيقي ضد كورونا. من حقهم أن يعرفوا، قبلا، أن الوباء قريب منهم، كي يأخذوا النصائح على محمل الجد، ويدركوا أنهم معنيون بالنصيحة والمرض.
بعد ذلك سيحدثون تغييرا في منظومة حياتهم (الشخصية والاجتماعية): النظافة، التباعد. السويد لم توقف الحياة، تركتها تمر وطلبت من مواطنيها تغيير أنماط الاتصال الاجتماعي. صنعاء، وباقي اليمن، لا تقع على حافة حظيرة خنازير. كما أن مقياس “العودة من المناطق الموبوءة” لم يعد عمليا ولا علميا. كل العالم موبوء.
استمعت إلى ما قاله الدكتور سعيد الشيباني من مكتب منظمة الصحة العالمية في صنعاء. كان واضحا أن الرجل لا يملك أرقاما ولا معلومات، ويتحدث بشكل عام وآلي. طلب منه المحاور أن “يدحض” الأقاويل، لا أن يقدم معلومات. وبالطبع فقد دحض الأقاويل بأقاويل.
تتحكم السلطات في صنعاء بكل البيانات. بعض الاستشاريين الذين تواصلت معهم استأذنوني في حذف حواراتنا، ذلك أن كلمة “كورونا” هي عمليا كلمة ممنوعة. تستطيع سلطة في بلد معزول أن تخفي كارثة؟ نعم، تستطيع نسبيا ولوقت يطول أو يقصر. تتحكم في مصادر المعلومة وسجلاتها، تحتكر قنوات الرصد والتدوين، تزود المنظمات بالمعلومات التي عالجتها، تحظر أي اتصال مباشر بين المشافي والمنظمات، وتخلق حالة خوف داخل القطاع الطبي. عندما طلبت من استشارية مرموقة أن تزودني ببعض المعلومات عن وضع العناية المركزة والطوارئ في المستشفى XY الحكومي طلبت وقتا للتفكير، ثم وافقت شريطة أن لا يعرف أحد (أي: أنها أخبرتني أن اناسا يصابون بفشل حاد في وظيفة الرئة). لماذا تبدو معلومة طبية محايدة مثل هذه معلومة بالغة الخطورة وتهديدا لجهات معينة، ولحياة ناقلها؟ شرحت هذا الأمر لمراسلة أسوشييتد برس حين طلبت مني تزويدها ببعض المصادر للحديث حول الوباء في اليمن.
كأننا بصدد موضوع يتعلق بأمن السلطة واستقرار نظامها السياسي. ثمة حديث كثير عن احتمال أن يزعزع كورونا استقرار أنظمة سياسية بعينها. هذه الفرضيات تقع خارج حديثنا وهي تصلح مدخلا لأطروحة دكتوراه لا لتقديم نصيحة حول الحماية من المرض.
تأخذ منظمة الصحة العالمية معلوماتها من قناة واحدة، السلطة. وبهذا تعفي نفسها كليا من أي تدخل، خصوصا وهي تواجه وباء كوكبيا خصصت له فقط ٢ مليار دولار، وهو مبلغ زهيد للغاية. يحدث في صنعاء أن السلطات الحاكمة تعفي منظمة الصحة العالمية من أي دور من خلال تكرار القول بأن البلد خالية من الوباء. المنظمة، وهي دائرة بيروقراطية بحتة، تتلقى هذا الإعفاء عن طيب خاطر. يخرج الدكتور الشيباني ويكرر: البلد ده طاهر وهيفضل طول عمره طاهر!
حالات موت ومرض متزايدة ولا تفسير. المجتمع متباعد ومفكك، والبلد تتوافر على قرابة ٧٠٠ جهاز تنفس اصطناعي (وفقا للوزير المتوكل. هل للشرعية وزير؟)، والناس لا يذهبون في العادة إلى المشافي، خصوصا حين يتعلق الأمر بالحمى والتهاب الحلق!
ستمضي الموجة مثل أي وباء وستفعل كما فعل كل وباء في التاريخ: ستضرب المساكين. ولأن طبيعة كورونا ضارية بعض الشيء في عالم متداخل فقد تضطر السلطات لاستعمال الحقيقة، وهي لا تستعملها حتى الآن. بالأمس اعترف الحوثيون بحالات كورونا في بعض الجزر اليمنية (كورونا في ميدي؟).
انتبهوا على أنفسكم، تباعدوا، توضوا خمس مرات (مستوى عال من النظافة الشاملة)، لا تجلسوا في جماعات، البسوا الكمامات.. هذه الاستراتيجية أهم بكثير من أي بنية تحتية. فلم تنقذ المشافي ووهان، أنقذها تغيير نظامها الاجتماعي وحياتها الجماعية على نحو راديكالي. ولكي يصبح ذلك ممكنا، بوصفه استراتيجية، من حق المجتمع أن يعرف أولا:
هل هناك من خطر؟ هل وصل الوباء؟