*عز الدين سعيد الأصبحي:
فرضت الحرب الروسية الأوكرانية نفسها وصارت محور اهتمام العالم، وغابت كل الحروب الأخرى، وبقينا مع العالم نتابع سلسلة حروب العقوبات الجماعية بين الدول وكأنها تصفيات كأس العالم الاقتصادي!. ومعه صار كل حديث عن معاناة وقضايا الشعوب الأخرى مجرد هامش، وحتى فيروس كورونا وتحوراته العجيبة كش واختفى! (فحرب كورونا وحرب أوكرانيا لا يجتمعان).
واختفت تصريحات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الإثيوبى تيدروس أدهانوم غيبريسوس ، كما اختفت أخبار الحرب الإثيوبية نفسها، وكأن حرب روسيا وأوكرانيا وتطوراتها المستمرة، مثل عصا موسى جاءت تلتهم أخبار الحروب الأخرى فى عالم متشظ، عالم يؤكد محورية الاهتمام الدولى، فى زوايا محددة لايحيد عنها، وأن القول حول قطبية العالم لا نعنى بها السيطرة العسكرية والاقتصادية فقط، بل والسيطرة على كل مسارات المؤسسات الدولية المختلفة، وصُنع المزاج العام نفسه. فالكل منشغل باجتماعات عواصم القرار، التى تسوق لنا كل شيء ابتداء من ربطة العنق وانتهاء بلاعبى السياسة والرياضة! وحيث يقلق صانع القرار الدولى يكون اهتمام العالم سواء كانت موسكو العظيمة او كابول المنهكة ، لذا نرى العالم بدأ يولى شطر اهتمامه إلى شرق آسيا من الصين وحتى سيريلانكا ومعركة باكستان وتموضع محورها. والتى يبدو أنها لن تتوقف عند خروج رئيس الوزارء عمران خان من دار الرئاسة فتلك جولة فى حرب بدأت فى البلد الإسلامى الكبير.
وأنا من بلد غارق فى حربه وهمومه التى تهد أجيالا وجبالا ومع ذلك ترى الناس منشغلة بتطورات أوكرانيا، وتنغمس فى موال تفسيرات وتداول ما تسميه أخبارا ومعلومات، يتقمص عامل المقهى كما جارك فى مقعد الطائرة دور المحلل السياسى الدولى وكأنه صانع حدث فى البيت الأبيض أو مسئول فى الناتو، وكل ما حولك فى هذه المنطقة منشغل بكل شيء إلا فيما يخصه من مهام. لذا نحن شعوب تتقن إهدار الوقت والطاقات فى نقد الآخر لا فى تجويد ما توكل الينا من مهام. نعم تأثيرات الحرب المستعرة فى أوروبا تجر نفسها على الجميع، خاصة فى قضايا الطاقة والمشتقات النفطية، وأزمة الغذاء العالمى، ولكن فى أوضاع مثلما نحن عليها، استغرب من تراجع اهتمام الشارع بجرحه أولا .
ولا أطيق الحديث بطريقة التحليلات المطولة أو أسلوب القنوات التى تحولت إلى مجرد نشرة أخبار واحدة متصلة تعيد كل ما قالته إلى درجة ضياع المعلومة المهمة.
الكل حولك يناقش تفاصيل الكون، والكل أيضا منشد ومشلول الحركة لانه ينتظر!. أتذكر كنت قبل سنوات ضمن مجلس إدارة الأكاديمية الدولية لبناء السلام وكنا فى برشلونة، وتلك أجمل مهمة فى أجمل مدينة لأجمل سنوات مضت، المهم فى واحدة من جلسات الاستراحة فى فندق بالمدينة بقى أحدهم فى الجلسة يشرح لنا بحماس عن تفاصيل أزمة ما فى كرة القدم يومها ونادى برشلونة، وأنت فى مدينة أيقونتها فريقها الشهير وكل الناس منشغلة بكرة القدم وترى نفسك وحتى وأنت لا يهمك أمر الساحرة المستديرة تستمع لنقاش ساخن هنا، وهتاف صارخ هناك، وإذ بمحدثنا العربى الأصيل يشرح بتفصيل وبلغات عدة أزمة برشلونة، وهو أمر لفت البعض إليه فتباهى صاحبنا باهتمام المحيط حوله وشطح، فأراد أحد الذين شدهم حديثنا العالى وبدت عليه علامات الوقار والمعرفة أن يوضح شيئا، وإذا بصديقنا يقمعه ويؤكد له معرفته العميقة بالنادى وأهله، والمستمع الجديد يحاول أن يكمل جملة وصديقنا يقمعه بحزم فهو أدرى، والضيف المستمع يحاول يكمل معلومة ما وصديقنا لا يسمح.
وبعد أن فشل الضيف وانتصر صديقنا فى أن يكون المرجع الرياضى الوحيد فى المدينة الاشهر كرويا، نهض المستمع وصافحنا وصافح الصديق الخبير، وقال معرفا عن اسمه بأنه ضمن الطاقم الفنى لنادى برشلونة!! وهنا ادركنا حجم ورطة صاحبنا الخبير الذى قمع الضيف ومنع كل تدخل له فى الحديث للتوضيح أو فرصة لتقديم معلومة. ومن يومها أستمع لكل صاحب صوت فى جلسة أو رحلة سفر أو مقهى، وأترقب من سيأتى لتوضيح المسألة كصاحبنا البرشلوني.
وبالعكس تماما مما حدث لصاحبنا البرشلونى الذى يفتى فى ديار أهله، أرى اننا نحضر ونستمع لمن يطلق عليهم خبراء فى قضايا الشرق الأوسط وهم لا يدركون تفاصيل المشهد المعقد فى بلداننا، ومع ذلك هم من يفتى، بل ويقرر ما هى مشكلتنا ويقترح الحلول التى غالبا ما تكون أكثر سطحية و تزيد مشهدنا المعقد تعقيدا، وتفتح أبوابا نحو الهاوية لا نوافذ نجاة لهذه المنطقة. وعندما توضح له بأنك صاحب القضية وأن اهل مكة أدرى بشعابها يذكرك بمحورية الكون ودول البريق وصنع القرار وتصدير الفكرة ، وان ماعدا ذلك هو هامش لعالم مضطرب.