عزالدين سعيد الأصبحى:**
يتباهى اليمنيون بحضرموت بكونها المحافظة الأكثر قدرة على تقديم النموذج الأرقى بالحكمة والتطلع نحو المستقبل فى اليمن.
فمن وادى حضرموت برزت كل بيوت العلم ودور المعرفة، ومن شواطئها انطلق رسل السلام نحو العالم، يقدمون النموذج السمح ليمن الإيمان والحكمة.
هذا العيد رنا اليمنيون بنظرهم صوب المحافظة الأكبر فى بلدهم بحب وتطلع لحلٍ يعزز الخروج من المتاهة، فلقد عصفت بهم ولا تزال رياح مهاترات لا تنتهى كادت ترسم تشظيا أوسع للبلد الكبير الذى لم يخرج من حرب ظالمة منذ ما يزيد على ثمانى سنوات، ومازال يتلمس طريقه نحو السلام وإعادة الاستقرار.
كان أبناء حضرموت بكل تكويناتهم قد أعلنوا (مجلس حضرموت الوطنى وهو الحامل السياسى والاقتصادى والثقافى والعسكرى والأمنى لأبناء حضرموت فى الداخل والخارج، ينضوى تحت إطار المجلس العديد من المكونات الحضرمية التى اجتمعت للتشاور فى مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية فى شهر مايو 2023م، وتم إشهار المجلس فى 20 يونيو 2023م ).
وهو مقترح وجد فيه معظم أهل اليمن بارقة أمل لتفعيل مسار التعايش والحوار داخل الوطن، حيث يمكن أن يكون نموذجا يحقق تماسك المجتمع المحلى لكل محافظة، خاصة مع تشظى السلطات وانتشار واقع الميليشيات، وتكمن أهمية خطوة حضرموت هذه فى تفعيل الإدارة المحلية للمحافظات نموذجا نبنى عليه فكرة السلام المجتمعي.
نعم صنعت الحرب واقعا مؤلما من التشظى، ونشرت خطابا انفعاليا لا يزيد الحرب إلا اشتعالا، ونحن بحاجة إلى خطوات سريعة على الأرض توقف التدهور وتعزز مسار السلام المجتمعي.
ولن يكون علينا اختراع العجلة فى ترتيب أولويات الحوار وشكل الحكم، فمخرجات الحوار الوطنى الشامل (بدأت أولى جلساته فى 18 مارس 2013، بالعاصمة اليمنية صنعاء، واستمر لمدة عشرة شهور حتى 25 يناير 2014). تشكل تلك المخرجات قاعدة أساسية لمعظم القضايا والأفكار التى يمكن مناقشتها، وبدلا من تكريس التقسيمات الميليشياوية القائمة، بحجة أن ذلك واقع الحرب الذى على الجميع الرضوخ له، علينا إعادة الاعتبار للحوار المجتمعى والعودة إلى الناس الذين هم أصحاب القضية، للمشاركة فى وقف التدهور وتعزيز سلطات الدولة، عبر تفعيل المؤسسات على مستوى الحكم المحلى للمحافظات وحشد المجتمع ورموزه مع سلطة الدولة، لتحقيق الاستقرار، الذى سيقود الأمر إلى حوار جاد يعيد الاعتبار لمشروع الدولة اليمنية.
ويمكن أن تقدم حضرموت النموذج الإيجابى الحى فى هذا المسار، كونها فى عمق السلطة الشرعية، وذات ثقل مهم فى الخريطة اليمنية، والأهم لما يراه فيها اليمنيون من قدوة ومثال إيجابى للحكمة والحوار.
ونعمل على تكريس هذا الدرس الحضرمى فى محافظات الجمهورية التى هى تحت سلطة الشرعية. وعبر إطار جامع يشمل ممثلى السلطة البرلمانية والإدارة المحلية وممثلى الأحزاب وقطاعات المجتمع المدنى والقطاع الخاص فى هذه المحافظات.
هذا الإطار الذى يمكن أن يكون مرجعية ضامنة لتعزيز الحوار المجتمعى ، وضبط الخلافات من ناحية، ويكون موجها للسلطة المحلية لتعزيز حضور الدولة من ناحية ثانية، ونبنى من خلال هذه الخطوة لبنة نحو السلام الداخلى المنشود.
فاليمن ليس بحاجة إلى حوارات دولية فى الخارج، بل إلى حوارات جادة داخلية يحضرها أصحاب الشأن من الذين يكتوون بنار الحرب وصراع الميليشيات. ويصنعون مخرجات فورية للتنفيذ.
نعم لعل فكرة تعزيز السلم المجتمعى على مستوى المحافظات أو المناطق المحررة، مقترح قابل للتنفيذ، لإعادة الاعتبار لكل أشكال مؤسسات الدولة، ونحث من خلاله أن يعود ممثلى الدوائر البرلمانية إلى قواعدهم، وتغادر نخب الأحزاب أبراج الرؤية البعيدة وتلمس فعليا تحديات واقع السلطات المحلية اليومية، فإذا نجحنا كيمنيين فى تعزيز بناء الدولة على مستوى الحى والمدينة والمحافظة والإقليم داخل الوطن، فسيتعزز مسار استعادة أفق الحوار الوطنى الشامل المفضى إلى حلول واقعية، تضمن استعادة مؤسسات الدولة وتنهى هيمنة الإقصاء وجنون الحرب.
نعم التحديات كبيرة وتجار الحروب يرعبهم أى حديث عن السلام، وصانعو الفوضى سيجدون ألف حجة ترفض أى تقارب مجتمعى، ولكن معركة السلام هى الأكبر والأهم والأكثر كلفة، ولا سبيل غيرها، فالهجوم بالسلام على ميليشيات الحرب قضية مجتمع وليس واجب ممثلى السلطة فقط أو نخب محدودة.
ولعل حوار حضرموت وما تمخض عنه من تقارب، وأجواء العيد المشبعة بالتفاؤل مع زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسى ونخبة من قيادات الدولة لحضرموت، تعطينا الحق بهذا الأمل.
فأن تجد مؤسسات الدولة الشرعية تعود ويحتفى الناس بها، ويسير الرئيس راجلاً بين الناس فى شوارع المكلا، هى رسالة حضرموت ترسل لنا درسها بأن استعادة الأمن وبناء الدولة ممكن وبسرعة إذا شمرنا سواعد البناء، وألا نُحبط من مرجفى الحرب، فهذه الخطوة وإن بدت عند المتابع البعيد بسيطة، هى فى وسط الحرب المجنونة وخطاب التشظى أمر كبير، وفرصة تشبه فتح نافذة للضوء فى جدار العتمة، وعلينا التمسك بها ليسقط جدار الخوف بأكمله.
* نقلا عن جريدة الأهرام المصرية
** سفير بلادنا لدى المغرب