توفيق السامعي:
لم تكن #شعلة_ثورة_السادس_والعشرين من سبتمبر مجرد رمز للثورة في ليلة حماسية أخرجت اليمن واليمنيين من الظلمات إلى النور؛ بل لها رمزية تاريخية عند اليمنيين خاصة والعرب عامة، وليست تقليداً فارسياً مجوسياً، كما يحب بعض المتنطعين تصوريها، محاولة منهم لإطفاء مشعل النور الذي أضاء اليمن من أقصاه إلى أقصاه.
لقد اتخذ الإنسان اليمني القديم هذه الشعلة، وإيقاد النيران على قمم الجبال، وسيلة إنذار مبكرة من الحصون والحاميات التي كانت تحتل قمم الجبال، وكل اليمن جبلية، وفي قمة كل جبل يقع حصن أو معبد قديم.
وحيث كانت جبال اليمن عالية فقد كانت الشعلة أهم وسيلة سريعة للتواصل بين حامياتها وحصونها وصولاً إلى عواصمها في المدن الكبيرة حيث مصدر القرار، لينذروا قومهم لعلهم يحذرون من الجيوش المغيرة والغازية.
كما كانت تستخدم كوسيلة للابتهاج والتعبير عن الأفراح في الانتصارات والمناسبات الدينية وغير الدينية.
ومن أهم دلالاتها أنها كانت تستخدم من قِبل الملوك اليمنيين وعواصمهم لإشعال الحرب، وهي إنذار ومظهر من مظاهر قرارات الحروب وتجميع الجيوش من بقية المناطق اليمنية، إلى جانب قرع الطبول الكبيرة في قمم الجبال أيضاً.
وهذه الدلالة، والمظهر والرمزية، وردت في نقش كرب ايل وتار في القرن السابع قبل الميلاد المسمى نقش النصر بلفظ (و ه ن ر/ ب ت ر ح) بمعنى: يوم اوقد نار بترح، وهي نار توقد في قمم الجبال، كما جاء في تفسير تلك العبارة.
حينما أوقد كرب إيل وتار نار الحرب في عاصمة الدولة السبأية (مارب) هو كناية عن إشعال الحرب، وجاءت التجمعات العسكرية من مختلف المناطق تلبية لهذا النداء عبر وسيلة إيقاد الشعلة، وتجمع له جيش كبير غزا به دولة أوسان ومعين بأشهر حملة في التاريخ عرفت بتوحيد اليمن القديم تحت حكم الدولة #السبأية، وهكذا مع بقية الدول بعده.
لقد كانت أشهر نار حربية على مستوى البلاد العربية حينذاك، لا تضاهيها إلا نيران جيش المسلمين حينما فتح مكة المكرمة، بحادث مشهورة في السير والمغازي.
حيث أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشه المكون من عشرة آلاف مقاتل أن يأخذ كل واحد منهم شعلة في يده لبث الرعب في قلوب قريش حتى تستسلم ولا تقاوم.
لقد شكل ذلك المظهر الليلي الرهيب حرباً نفسيّة ارتجفت لها قلوب قريش، وانخلعت من ذلك المنظر المهول أكباد المشركين؛ جعل كل مشكري قريش يرومون السلامة ويقدمون على الاستسلام، وفي تلك اللحظة الرهيبة والحاسمة استعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- الجيش كتيبة كتيبة وجعله يمر أمام أبي سفيان وهو يسأل عنهم كتيبة كتيبة أيضاً والعباس يجيب، وذلك حينما حبس أبا سفيان عن العودة لمكة لاستكمال رسالة الجيش بذلك المظهر ليوصل رسالة النبي إلى قريش والتي كان مفادها: “لا طاقة لكم اليوم بجيش محمد وأصحابه. لقد رأيت رجالاً لا تقوم لهم جبال مكة”!
لقد حضر نفس ذلك المشهد للملك المظفر يوسف بن عمر بن علي رسول، وهو يسقط حصون الانقلابيين ومدنهم في لحج والجوءة والدملؤة؛ لإعادة توحيد اليمن مجدداً، وإقامة الدولة الرسولية الثانية، بعد الانقلاب على أبيه وقتله عام 647هـ.
وكان من أهم مظاهر تلك #الشعلة ودلالاتها أن حصن وقلعة الدملؤة كانت آخر معاقل الانقلابيين وآخر معاقل أخيه المفضل وخالته بنت جوزة (أم المفضل)، ورغم حصاره لشهرين لم يستطع إسقاطه، فعمل مع اخته الملكة الدار الشمسي بحيلة لإسقاطها من الداخل، وكان هو يقيم في حصن التعكر من بعدان يقرر شؤون الملك في إب وعائداً من #صنعاء بعد إسقاط الانقلاب فيها، وكان الاتفاق بينهما أنها ستعمل حيلها في داخل القلعة لإسقاطها، وأن تكون الإشارة بينهما نار كبيرة يتم إشعالها في قمة قلعة الدملؤة بينما هو يراقب الوضع عن كثب من قلعة وحصن التعكر في إب.
وحينما أنجزت المهمة بدهائها المعهود؛ فهي من أسقطت الانقلاب في قلعة زبيد وفتحتها لأخيها المظفر، ونفس الشيء فعلته في قلعة الدملؤة الحصينة، أمرت عبيدها بإشعال الشعلة والنار العظيمة في القلعة فلما رآها #الملك_المظفر من التعكر ترك كل شيء خلفه وأسرع يجوب الآفاق تلبية للنداء.
لم تبارح تلك الشعلات ابتهاجات اليمنيين واحتفالاتهم عبر التاريخ؛ فقد كنا نقرأ ونمر مرور الكرام على تلك الإشارات دون أن نعيرها اهتماماً حتى اليوم، فكانت النيران توقد في شرفات المنازل، وقمم الجبال، وشرفات القصور احتفالات بالنصر، أو التعبير عن الأفراح في المناسبات سواء الدينية أو الوطنية.
فكنا في صغرنا، جرياً وراء عادات وتقاليد الآباء والأجداد، أن نشعل النيران في أعياد الأضحى، وفي #الشعبانية، وفي الرجبية، وفي أعيادنا الوطنية، واليوم حتى في أعراسنا.
هذه الشعلات قديماً هي ما يقابل اليوم إضاءة الأنوار والمصابيح بالكهرباء في المناسبات؛ ولم تكن يوماً اتباعاً ولا تقليداً للفرس المجوس كما يحاول بعض المتنطعين الجهلة إيهام الناس بذلك.
إيقاد #شعلة_الثورة هو تقليد آخر منذ نجاحها ضد الإمامة في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962، وينبغي أن تبقى جذوتها متقدة في قلوب كل اليمنيين للعمل على التحرر من الإمامة الجديدة، والعمل على ردمها في مزابل التاريخ.