كتب / بشرى العامري:
على مرّ العصور، ظلت الحناء تُشكّل لوحة جمالية نابضة بالحياة في حياة الشعوب العربية، لتصبح رمزاً للفرح ووشماً خالداً للهوية.
الحناء ليس مجرد لون يُرسم على الأيدي والأقدام، بل طقسٌ اجتماعي تتجلى فيه معانٍ عميقة من البهجة، والاحتفاء، والتقاليد العريقة.
وفي اليمن، كما في باقي الدول العربية، وغيرها يعد الحناء أكثر من مجرد نبات، فهو حكاية تتوارثها الأجيال، وحبكة فنية تُنسج بأيدٍ بارعة في الليالي المقمرة، حيث تتجمع النسوة ليرسمن بخطوط الحناء أسرار الفرح وألوان الثقافة.
نقش الحناء في جوهره رسالةٌ من الماضي، تصل الحاضر بالمستقبل، ففي اليمن، يُعد استخدام نقش الحناء في حفلات الزفاف من أهم الطقوس التي تُضفي على العروس رونقاً خاصاً، حيث تُنقش يداها بزخارف مستوحاة من الطبيعة والبيئة المحلية، وكأنها تحمل بركةً وسحراً سيرافقانها إلى حياتها الجديدة.
كما يُستخدم الحناء في الاحتفاء بالمولود الجديد، حيث تُرسم به الأمنيات السعيدة لعمر مليء بالصحة والسرور.
وفي الأعياد، تتحول طقوس نقش الحناء إلى كرنفالٍ صغير، تتزين فيه الأيدي، وتكتسي الأجواء بنفحات الفرح وموسيقى الحكايات الشفوية التي ترويها الجدات أثناء تحضير عجينة الحناء.
أدب الطقوس وجمالية التعبير
ليست الحناء مجرد لونٍ يُصبغ الجسد، بل إنها لغة بصرية تُعبّر عن الأفراح والآمال.
تتطلب هذه الطقوس تحضيراً خاصاً، تبدأ بجمع أوراق الحناء وتجفيفها، ثم طحنها بعناية لتتحول إلى مسحوقٍ يُمزج بالماء وقطرات من الزيوت العطرية، ليصبح عجينة تحمل عبق التاريخ.
وعند النقش، تتحول اليد إلى لوحة فنية بديعة، حيث تُرسم رموز تعبر عن الحب، والعطاء، والقوة. لكل خطٍ في النقوش قصة، ولكل زخرفةٍ معنى يضفي على المناسبة خصوصية لا تُنسى.
روح الجماعة وتماسك المجتمع
ما يميز طقوس نقش الحناء أنها ليست مجرد عادة فردية، بل هي فعلٌ جماعي يحمل روح الترابط الاجتماعي. النساء يجتمعن في جوٍ من الضحك والمودة، يتبادلن الحكايات، ويرددن الأهازيج الشعبية، في تواصلٍٍ حيّ مع التراث الذي يجعل الماضي ينبض في الحاضر.
الحناء: امتدادٌ عربي مشترك
ليس غريباً أن تختار اليونسكو إدراج طقوس الحناء ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، فهي ليست فقط تراثاً يمنياً، بل إرثٌ عربيٌ مشترك، من اليمن إلى المغرب، ومن العراق إلى موريتانيا، يظل نقش الحناء قاسماً مشتركاً يُعبر عن وحدة الشعوب العربية في احتفائها بالفرح والجمال.
الحناء: قصيدة الأيادي وعطر الذكريات
طقوس الحناء ليست مجرد فعلٍ عابر، بل قصيدة تنبض بحروف الأمل، وتغني بلغة الماضي، وإدراجها في قائمة التراث الثقافي غير المادي يُعد تكريماً لهذه العادة التي تحمل بين طياتها عبق التاريخ وأصالة الهوية.
الحناء، تلك العجينة السحرية، ليست مجرد لونٍ على الجلد، بل هي علامة على الفرح، وشاهد على التراث، ورابط قوي بين القلوب، تظل تحكي للأجيال القادمة أن الجمال يكمن دائماً في التفاصيل البسيطة.