من منا لم يحلم ولو لمرة واحدة حلما من أحلام اليقظة؟
تلك الأحلام الساحرة المؤنسة، المتنفّس لمكنوناتنا، وطموحاتنا، وعجزنا، وخيالنا، وآمالنا المكبوتة، فكم أطلقنا أحلام اليقظة لمّا احتجنا الهروب من واقعنا، فجُـلنا في آفاق الكون دون أجنحة، وكم انكسرنا فانتشلتنا تلك الأحلام من قاع الأحزان إلى سماء المجبورين.
كانت أحلام اليقظة رفيقي الدائم منذ صدر شبابي، وشكلت ملاذي الخاص الذي يحتويني كلما خذلتني صروف الحياة، واستبدت بي أوجاعي، وكم أبحرت سفني في دنيا الأحلام، ثم عادت لترسوا مجددا هانئة على شواطئ يومي وأمسي.
فكنتُ -كلما أقعدني فقري- أُطلق أحلاما محلّقة في عوالم من ذهبٍ وياقوتٍ ومرجان، ودولار ويورو أيضا، فعندما أحلم فأنا لا أحلم على الكفاف، ومن المخزي أن تكون جبانا في أحلامك أو خجولا، ولا بد لأحلامك أن تجعل من السماء سقفا مفتوحا، وتطال بها الفضاء، فلا حدود للثراء، ولا حدود للبذخ، فجرّب كل متع الدنيا الفانية ولا تبالي، وتقلّب في النعم كالأثرياء، بل أثرى الأثرياء، وإن لم يفارق جسدك منزلك، لكن تيقّظ ألا يغرّك حلمك، أو يمسّ قناعتك بيومك ورزقك.
ويوم أن يستبد بي ضعفي وقلة حيلتي، أفرد من الأحلام أجنحة من القوة الخارقة، وأتخيّر -كما أشاء- من أريد أن أكون من أبطالي الخارقين الذين أدمنت قصصهم المصورة منذ نعومة أظفاري، فيوما أطير مثل السوبرمان، وآخر أكون الرجل الحديدي، وتارة أعدو أسرع من البرق، وكم نَعِمَ العالم وسعدَ بخدماتي الجليلة في تلك الدقائق التي ظهرت له فيها بطلا خارقا، فعاش السلام والأمان في زمن الحرب، والذل، والخنوع، والارتهان.
ولما يضجّ بي تقاعس حكامي، تمنحني أحلامي الفرصة لأكون أنا نفسي حاكما عظيما يبني دولة العدل والرفاه والقوة والشورى، وخلال دقائق من حلمي -هي أعوام في عمر الشعوب- يصبح بلدي الصغير عظيما بناسه، وثروته، وموقعه، وتجذّر حضارته، فحاز المنعة والهيبة والاحترام، وأصبح جواز سفري الأزرق رسولا إلى كل العالم مبجلا دون حدود، وها أنا أصدح في شعبي بكل الكبرياء: ارفع رأسك يا أخي فأنت عربي، مجددا.
وإذا ما عِـفتُ أحلام الثروة والقوة والنفوذ يوما، ساقتني أحلامي إلى كهف فانوسي السحري، فما إن أدعكه حتى تبدأ الأعاجيب في الحدوث، والأمنيات المستحيلة في التحقق، وإذا بي أطوف العالم على كتف ماردي الضخم، ومن مغامرة إلى أخرى يسري بي خلّي الوفي، ورفيقي الأمين.
وفي كل مرة كانت تنقضي فيها لحظات أحلامي؛ كنت أعود دائما إلى نفسي؛ إنسانا بسيطا قانعا راضيا بقدر ربه، وشاكرا لأنعمه.
أعلم كم يبدو مضحكا -وأحيانا محرجا- أن يُفصح الإنسان عن طبيعة أحلامه، فهي عادةً مما لا يُقال، لكن لنكن صادقين مع أنفسنا؛ فكم يبدو محزنا، بل ومخزيا أيضا أن يُحرم الإنسان حتى من لحظات يعيش فيها بعض الحلم.
.. وأحلام مفقودة!
ولأن دوام الحال من المحال، أتى يوم تعطلت فيه ملكة أحلام اليقظة دون إنذار، وبتنا نستدعي الحلم بالإكراه، وأحيانا كثيرة لا يأتي، ليضعنا أمام عجزنا المخزي، عراة النفوس، ومكلومو المشاعر.
لا يبدو اليأس واردا في قاموس الحياة، ولا في قاموس الأحلام خصوصا، لذا قررنا تطويع الحلم قسرا، وبأحلام الثروة الآن نبدأ.
فأطلق مشروع حياتك، وأسس قواعد غناك، وابنِ -بفخرٍ- صروح مجدك، دع أكوام المال تنتظم في خزائنك، وتعجز رزم النقود عن أن تجد لها متنفسها فيها، فقارون نفسه بكل خزائنه لا يدانيك ثروةً، لأنك هنا من يحلم لا هو.
لكن ما هذا الدويّ؟ وهذا الصراخ الذي أسمع؟ ولماذا شرعت أكوام أموالي في الأفول؟ لماذا أراني أفقد السيطرة على حلمي تحت معاول الضرائب والجمارك وهيئة الزكاة، وأسهم الاحتفالات وقلة الأعمال وغيرها؟ من سمح لهم بولوج حلمي وأخذ مالي؟ لماذا أدرك الحكمة الدفينة متأخرا، أنه لا يمكن لاقتصاد المال والأعمال أن يزدهر في دولة تأخذ ولا تعطي، لا في الحلم، ولا حتى في الخيال.
دعوني إذن أجرب حلم السلطة، لعلي أصلح ما فسد واختل، وها أنا أراني أبدأ رحلة حلمي متدرجا في السلم قاصدا أعلاه، وها هو حلمي يدفعني رويدا رويدا نحو السلطة والرئاسة والحكم، وما كدت أن احصل على ترقيتي مديرا عاما حتى قطع استغراقي صوتٌ أجش، ووخزت كتفي بعنف أصبعٍ غليظةٍ خشنةٍ لمُخبر تسلل إلى حلمي، وها هو يأمرني أن استيقظ فورا، وأن اشرب كأسا من الماء وأعود إلى وعيي، ثم يقول لي محذرا وهو يهز اصبعه تلك: كف عن الحماقة، ودعك من هذه الخزعبلات، “واقترص العافية”، وهكذا ينتهى حلمي بكل بساطة مثل فقاعة في الهواء، تلاشت بوخزة مخبر، فتناثرت إلى أشلاءً.
وخطر لي -وأنا أكابر ضعفي المخزي هذا- أن القوة الخارقة ربما تكون الحل، فأطلقت حلمي مجبرا كي يبحث لي عن أبطالي الخارقين، لكن لماذا صعب علي أن أتقمص أيا منهم كما كنت أفعل دائما؟ أين اختفوا جميعا؟ هل انشقت الأرض وابتلعتهم؟ كادت حيرتي أن تقتلني، لكنها لم تستمر طويلا، فإذا بعصافير أحلامي تسوقوني سوقا لأبطال فاقوا أبطال قصصي المصورة قوة ومنعة، إنهم جبابرة الأرض الحقيقيين، وها أنا أرى المقاتل الأنيق، والساجد، وصاحب العصا، والفتاة الخارقة بعمر السبع سنوات تحمل أختها المصابة على كتفها، وتلك الأم الجبارة تحمد ربها بعد أن فنيت أسرتها، وذلك الأب الصابر يجمع رفات عائلته الذي اختلط لحم أجسادها، فلم يعد يميز أي منها.
لن أسمح للقنوط أن يعتريني بعد اليوم، وربما حان الوقت أن أدخل كهف فانوسي السحري مجددا لعلي أحظى ببعض الدعة والراحة والمغامرة، وها أنا ألج المكان، واقترب من حيث وضعت الفانوس آخر مرة، حملته بيدي فإذا بنبضات قلبي تتسارع فرحا بمغامرة جديدة بين الأكوان، ولم أطق صبرا فدعتكه ودعكته ودعكته حتى كلّت يدي ولم يستجب، أين هو خادم المصباح الغبي؟ أين ذهب؟ توقفت عن دعك الصباح وألقيتُ به أرضا والاستياء يملأ نفسي، لكنه ما إن لامس الأرض حتى اهتز بشدة وبدأ دخان المارد في الخروج، وإذا به يظهر هزيلا حافيا يرتدي إزارا نسميه “مقطبا” وقميصا مهترئا، شعره أشعث وذقنه ناتئة، وبيده اليسرى عقب سيجارة مشتعل.
نظر إلى المارد بكل برود وقال: “اعذرني على تأخري، فقد كنت راقدا من الضبح”، ثم أشاح بوجهه ليأخذ نفسا عميقا متبقيا من عقب السيجارة، وينفثه بقوة في الهواء، وبحركة سريعة من أصابعه رمي العقب بعيدا.
لم أنبس ببنت شفة، كان منظره صادما، ولوهلة شعرت أني أنا المارد لا هو، نظر لي مجددا وقال مسترحما مستعطفا: “اسألك بالله إن كنت تملك “صندلا” إضافيا فأعطني إياه فقد أشقاني بقائي حافيا”.
لم أجرؤ على إبداء رد فعل من أي نوع، فما زال هو في كل الأحوال ماردا، أو شبه مارد مثل شبيه القشطة، خلعت صندلي وسلمته له، فارتداه على عجل ثم أخذ في التلاشي، لكنه قبل أن يختفي أطل برأسه وصاح بي بلغة أقرب للدارجة: “اسمع، إذا دعكت المصباح ثانية فجهز عشرة ألف سلف حتى يصرف حقنا الجن النصف راتب الجاي”، ثم اختفي في ثانية.
ضربت كفا بكف وأنا لا أدري هل أضحك، أم أحزن؟ أم أتألم؟ فنحن لم نستطع إرجاع ديوننا لدى الإنس أنفسهم، فكيف سنلاحق جنيا على دين قيمته عشرة ألف؟
بعدها؛ ما عادت الأحلام تأتيني سوى في المنام، وإن أتت فلم تعد تجدي، وها هي الواقعية تطل بقرونها ساخرة من الحالمين في وطن الحالمين، تذكّرنا بدجل الحكام، وقولهم وهم يتشدّقون: “الإنسان هدف التنمية ووسيلتها معا”، وليتهم يصدقون، فقد جعلوا الإنسان بالفعل هدفا لقمعهم، ووسيلة لتثبيت ملكهم، وملء خزائنهم.
سألت نفسي بحرقة: من سلبني أحلام يقظتي؟ ومن قضى عليها؟ وكيف يمكن لي أحيا بدونها؟ سرت منهكا متبلّد الشعور، وأنا أسال نفسي كل أسئلة الكون والوجود، حتى ناء بي جسدي، ومال بي إلى حائطٍ وظل، ورحتُ أغطّ في نوم عميق لم أذق مثله منذ أعوام، وإذا بطائفٍ أسمعه ولا أراه، يناديني: يا هذا ألا تفقه أيها التائه بين أعمدة الزمان أن جلّ أحلامك قد اجتمعت في حلم واحد، أيها التائه المسكين حلمك واحد فابحث عنه، ولا توهن نفسك بالتفكير بغيره، فيك الحلم، ألا تفقه؟
نعم، كلنا فداءٌ لحلمٍ يدعى الوطن، أحلامنا فداء للوطن، صحواتنا فداء للوطن، لكن مهلا، أي وطنٍ؟
مازلت لا أدري متى يدرك القابضون على العروش في هذا الوطن؛ أن الوطن بدوني ما هو إلا ترابٌ وسماءٌ.. وأحجارٌ وماء؟ متى يفقه الأعراب حقيقة أني أنا الإنسان هو الوطن المنشود، وما دوني سراب؟ فأنا وطن، وأنت وطن، نحن -حبًّا بالله- جميعا الوطن!