بلال الطيب :
حضرت في عهد «الدولة القاسمية» الفتوى الدينية المُكفرة للآخر، وبموجبها صار «الشوافع» كفار، وقتلهم واستباحة أموالهم جهاد في سبيل الله، كانت حينها الطرق الصوفية قد وجدت طريقها للانتشار؛ بفعل الدعم والرعاية «الرسولية»، ثم «الطاهرية»، ثم «العثمانية»، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله مؤسس تلك الدولة، «المنصور» القاسم بن محمد «1006هـ / 1598م»، وأصدر فتوى كفر بها اتباعها وداعميها.
عاودت القبائل الشمالية غزواتها، الناهبة للأرض، المـُـذلة للأنسان، في عهد «المـُـؤيد» محمد بن القاسم، وأخوه «المـُـتوكل» إسماعيل، الذي عزز فتوى أبيه بفتوى: «إرشاد السامع، في جواز أخذ أموال الشوافع»، وأيضا في عهد «المنصور» حسين بن القاسم، وولده «المهدي» عباس، ومن أتى بعدهم من أئمة، ليتجسد بذلك التطبيق الفعلي لجميع الفتاوى السابقة.
بعض تلك الغزوات الجنونية، كانت تحدث بتوجيه ورضا من الأئمة أنفسهم، وقد سجل المؤرخون قيام بعض الأئمة بتوزيع قطاعات كبيرة من أراضي «اليمن الأسفل» الخصبة لكبراء تلك القبائل الموالين لهم، وقد نشر الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته، صورة لوثيقة قديمة تؤكد ملكية أسرته لجبل «وراف»، سبق وأن أعطي لأحد أجداده من قبل «المهدي» عبدالله بن «المـُـتوكل» أحمد.
في القرن الثالث عشر الهجري انقلب السحر على الساحر، واكتوى الأئمة «القاسميون» بسعير تلك القبائل، حاصروا عاصمتهم صنعاء أكثر من مرة، وناصروا أمراء طامحين، حتى استنفذوا ما بأيديهم من أموال، قتلوا، ونهبوا، ومارسوا جميع الموبقات؛ بل أنَّ غالبيتهم بشهادة العلامة محمد علي الشوكاني كانوا يستحلون دماء المسلمين وأموالهم، ولا يحترمونها, ولا يتورعون عن شيء منها.
وهذا المؤرخ المجهول «صاحب الحوليات»، من تفرد بنقل تفاصيل الاجتياح «البكيلي» الكبير «1238هـ / 1823م»، والذي سبق وتحدثنا عنه، قال أنَّ «المهدي» عبد الله لم يكن راضياً عن ذلك، وأشار إلى أن تلك القبائل كانت قد تألفت أراضي إب الخصبة في غزوات لها سابقة، وألمح أنَّهم باستيطانهم الأخير استقلوا بتلك المناطق عن «الدولة القاسمية»، وكانت تحت أيديهم أشبه بالدولة المستقلة.
كان لسيطرة قبائل «بكيل» على أجزاء واسعة من «اليمن الأسفل»، خلال تلك الفترة أثره البالغ في تفشي حوادث النهب والسلب، وقطع الطرق، فانتشر الخوف، وبُث الرعب، وبلغت القلوب الحناجر، لتتشكل وسط تلك الظروف العصيبة، حركة تحررية صوفية، بقيادة الفقيه الثائر سعيد بن صالح بن ياسين المذحجي، الذي أعلن نفسه إماماً للشرع، وابتدأ ثورته بإخراج تلك القبائل من أراضي إب وحصونها، وامتدت سلطاته لتشمل جميع مناطق «اليمن الأسفل».
ترجع البدايات الأولى لبروز شخصية الفقيه سعيد إلى العام «1239هـ / 1824هـ»، كان حينها في بلد «شار»، مُنكباً في صوفيته، مُعتكفاً في زاويته، مُتبتلاً في محرابه، زاهداً عن ملذات الحياة، يُحيي موالد الذكر، ويستقبل المريدين والأتباع، يُصلح بين الرعية قدر المستطاع، يتألم بصمت لحالهم، يراقب انتفاشة جلاديهم، ويهيئ النفوس لرفض الظلم، واستعادة الحق المسلوب.
وفي المقابل، كانت «الدولة القاسمية» تعيش أسوأ مراحلها، توفي آخر أئمتها الأقوياء «المهدي» عبدالله بن «المـُـتوكل» أحمد «1251هـ / 1835م»، حل النزاع والشقاق داخل الأسرة الحاكمة، تمكنت قوات محمد علي باشا من اجتياح اليمن، لم يدم بقاءها طويلاً، انسحبت بداية العام «1256هـ /1840م»، ليبقى «اليمن الأسفل»، ساحة فيد لمشايخ الإقطاع وأتباعهم.
ضاق الرعية أصحاب الأرض الأصليين ذرعاً، فجروها ثورة، تولى الفقيه سعيد قيادتها، أعلن نفسه إماماً لـ «الشرع المـُطهر»، جعل من «الدنوة»، – الواقعة بين «حبيش، ونَعمَان»، غربي مدينة إب – مقراً له، نصب الولاة والقضاة، وخطب باسمه على المنابر، وضرب بلقبه العملة الفضية، والتي كانت الـ «40» قطعة منها تساوي ريـال فرنصي.
في أول جمعة من رجب «5 رجب 1256هـ / 2 سبتمبر 1840م»، وقف الفقيه سعيد في جامع الجند بين أنصاره خطيباً، دعا سكان «اليمن الأسفل» إلى نصرته، سانده أغلبهم، وتمكن خلال شهر واحد من استعادة حوالي «360» حصناً، سبق لــ «جحافل الفيد» أن تمركزت فيها، أخذ جميع ما بها، وأمر أصحابه بالتحصن فيها.
امتدت سلطات الفقيه سعيد بعد ذلك من «يافع إلى زبيد، ومن تعز إلى يريم»، فصدح الناس بتلك المناطق ببعض الأهازيج، نقتطف منها:
يا باه سعيد يا باه
يا ساكن الدنوه
أسلمتنا المحنةْ
والعسكر الزُّوَبهْ
فابقى لنا يا باه
يا باه سعيد يا باه
كل القُبُل جابهْ
تحيا لنا يا باه
ومنها:
حيا رجال شرعب
خلوا السيوف تلعب
من سفح نعماني
فابقى لنا يا باه
الطبقات الشعبية الفقيرة العاجزة عن فهم التعاليم الدينية المـُجردة تحتاج – كما يقول الدكتور حليم بركات – إلى وسيط يتحسس مآسيهم، ويساعدهم على حل مشكلاتهم، وينصرهم ضد ظالميهم، ويتكلم لغتهم، وهو ما وجده سكان «اليمن الأسفل» في الفقيه سعيد، وإلى ذلك أشار المؤرخ محمد بن اسماعيل الكبسي، حيث قال: «أجفل إلى الفقيه سعيد أهل اليمن من نقيل صيد – سمارة – إلى عدن، وأتوه بالنذور، والزكوات، وكان يطعم الطعام لمن وفد إليه».
المؤرخ الكبسي نقل وصفاً موجزاً لحالة الخوف والذعر الذي اجتاح سكان «اليمن الأعلى»، بفعل تلك الثورة، خاصة حال رؤيتهم لـ «رجال بكيل قد ارتحلوا عن اليمن الأسفل، مرعوبين مرهوبين» بعد أن استولى الفقيه سعيد على «المـُـفسدين من ذي محمد، وأخرجهم من حصون شوامخ، وجبال بواذخ»، من جهته قال المؤرخ العرشي عن ذلك الفقيه الثائر: «رجل ملك الوقف، فأرجف به الناس، وأنزل المحمديين وغيرهم من حصونهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وتابعه كثير من العوام».
أجل «القاسميون» بعد اغتيال إمامهم «الناصر» عبدالله بن الحسن خلافاتهم، نصبوا محمد بن «المـُـتوكل» أحمد إماماً، بعد أن أخرجوه من السجن، تلقب بـ «المـُـتوكل» تيمناً بأبيه، ثم غيره بعد ثلاثة أشهر إلى «الهادي»، تيمنا بجده الإمام يحيى بن الحسين، المؤسس الأول لـ «دولة الإمامة» في اليمن، وتزامناً مع عزمه على التوجه جنوباً لمحاربة الفقيه الثائر «شعبان 1256هـ / أكتوبر 1840م».
استحضر «القاسميون» فتاوى الآباء والأجداد، دعا داعي الجهاد، جاءت القبائل طلباً للثأر، وطمعاً في الغنائم، تولى مُسعري الحرب مهمة الإقناع، جعلوا للفقيه الثائر اسماً آخر: «سعيد اليهودي»، اتهموه بالسحر والشعوذة، وبأنه أدعى أنَّه «المهدي المنتظر»، ليأتي وصف «صاحب الحوليات»، مُتماهياً وذلك التشنيع، وصف الثورة بـ «الفتنة»، والفقيه بـ «الشيطان»، وبأنه «أكبر أهل الطغيان, شق للمسلمين العصا، وتبع هواه وعصى»، وزاد على ذلك: «وقد صارت جميع البلاد من جند الباغي اللئيم، والطاغي سعيد».
في إحدى خطبه بمدينة تعز «1 رمضان 1256 / 30 أكتوبر 1840»، أعلن الفقيه سعيد عن توسيع أهداف ثورته، وصارح أنصاره بعزمه على اسقاط دولة الإمامة في الشمال، وطرد الإحتلال الإنجليزي من الجنوب، وكان لتلك التصريحات أثرها البارز في اندفاع الجماهير اليمنية لتأييده، وكان قبل ذلك قد تلقى طلباً من قبل السلطان محسن فضل العبدلي لمساعدته من أجل استعادة مدينة عدن.
بينما كان الفقيه سعيد يهيئ قواته لإرسالها للجنوب، وصلته الأخبار بتقدم قوات «الهادي» محمد نحوه، استعد لملاقاتها، كان جيشه الأكثر عدداً، الأقل عدة، فيما توافد إليه كبار مشايخ «اليمن الأسفل» ورعاياهم، مهنئون وداعمون، أمثال: الشيخ محمد بن قاسم «مخلاف الشوافي»، والأمير سعيد بن أحمد علي سعد «العدين»، والشيخ حسين بن يحيى عباد «مخلاف ذو رعين – خبان»، الشيخ عبدالله مثنى فاضل «مخلاف العود، والنادرة»، وقائد الحارثي، و«ابن عبادي» من الحجرية.
تولى قيادة ذلك الجيش «شيخ العدين» سعيد بن أحمد، والذي كان للفقيه سعيد بمثابة ساعده الأيمن، وقيل غير ذلك، وثمة معلومة يتيمة مُتصلة، أوردها الشيخ المناضل عبدالرحمن أحمد صبر ذات مقيل، مفادها أنَّ من تولى قيادة ذلك الجيش كان أحد مشايخ «جبل صبر»، لم يذكر له اسماً، ولم أجد في المراجع التي وثقت لتلك الحقبة ما يؤكدها.
وصلت في منتصف شهر «رمضان 1256هـ / نوفمبر1840م» طلائع القوات الإمامية إلى يريم، عسكروا فيها، أرسل «الهادي» محمد الرسل والجواسيس، لاختراق جبهة الفقيه الثائر، خاصة وأنَّ الأخير كان قد استبقى بعض مشايخ «اليمن الأعلى» وأتباعهم لديه، مثل النقيب حسين بن سعيد أبو حليقة, والنقيب علي بن علي الهيال, تظاهروا له بالولاء، وتعهدوا في الخفاء، لـ «إمام صنعاء» بالوقوف إلى جانبه، والقبض على الفقيه سعيد، وقادة جيشه، مع أول هجوم، وكانوا بالفعل خير سند لإمامهم، كما سيأتي.
في أوائل الشهر التالي، وصل جيش الفقيه الثائر إلى يريم، حاصر القوات الغازية، كان النصر حليفه، وصلت تعزيزات من «خولان، ونهم، وهمدان، والحدا»، ساهمت في ترجيح كفة «إمام صنعاء»، هجمت قوات الأخير على معسكر الفقيه، سقط المعسكر من الداخل، بفعل الخونة الذين اقتحموا خيمة قادة الجيش، واقتادوهم أسرى إلى إمامهم «الهادي» محمد.
أفلت الفقيه سعيد منهم بأعجوبة، انسحب بما تبقى لديه من قوات، تحصن في «نقيل سمارة»، استمات في الدفاع والمقاومة، خسر المعركة «18 شوال 1256هـ»، تراجع إلى «الدنوة»، اقتحم الغزاة بعد مرور أسبوع حصنه المنيع، نهبوا كل ما فيه من أموال وحبوب، وأخذوه أسيراً إلى مدينة إب، وهناك وفي يوم الأحد صلبوه أمام حشد كبير من مُناصريه «2 ذو القعدة 1256هـ / 27 ديسمبر 1840م»، ثم حزوا رأسه، وقدموه قرباناً لنزق إمامهم المـُــتسلط.
تفرد مؤرخ اليمن محمد بن علي الأكوع، بنشر رواية مغايرة، مَفادها أن «الهادي» محمد دخل قبل ذلك مدينة إب، وأنَّه أحال أمر الفقيه الثائر لجماعة من العلماء، وأنهم أفتوا بإعدامه، وأردف: «وكان قتله ظلماً على الباب الكبير، في مدينة إب، عن ثمانين سنة، وقيل أكثر من ذلك».
اللافت في الأمر، أنَّ «الهادي» محمد وجه قبل عودته إلى صنعاء بحز رأس النقيب حسين أبو حليقة، الذي غالى بمطالبته بالأموال والأعطيات؛ نضير خيانته السابق ذكرها، فيما قام الشاعر أحمد بن لطف الزبيري بمدح سيده الإمام بقصيدة طويلة، تلخص الأحداث السابقة من وجهة نظر إمامية، نقتطف منها:
فليهن أركان الخلافة إنها
قد شادها الهادي الإمام الأعظم
وأعادها بكراً وعاد جمالها
غضاً وقد كادت تشيب وتهرم
وهدمت ما عمر الشقي بسحره
ونقضت ما عقد البغاة وأبرموا
يقول المؤرخ الشماحي عن ثورة الفقيه سعيد: «وهذه الثورة وما حملته من شعارات الملك والإمامة لغير الفاطمي والقرشي، كان لعا صداها، فقد تركت وراءها المزيد من التساؤلات عن الإمامة وحصرها في الفاطميين، كما أنها أفزعت الإمام القاسمي وأسرته ودعاتهم، ورأوا أنها فاتحة للعود باليمن إلى العهد الرسولي والطاهري»، وأضاف: «وما الإمام سعيد إلا أحد أعلام القافلة الذين سقطوا في أثناء الطريق، تاركين آثارهم يهتدي بها السائرون بعدهم».
من جهته أشاد المؤرخ الأكوع بتلك الثورة وقائدها، قائلاً: «تعتبر هذه الثورة التي قادها الإمام العارف بالله، ثورة الحق على الباطل، وثورة الإصلاح على الفساد والفوضى، وثورة الأنسانية على الوحشية الشنعاء، وثورة بيضاء نقية، وعدل ناصح على الظلم الحالك، وثورة الضعيف المقهور على الجبروت الجلاد، وثورة التوحيد بلا إله إلا الله، على ما يشبه الانحلال والفراغ النفسي، ولكن للأسف، أن هذه الثورة لم تستكمل عناصرها، ولم تتخذ لها العدة اللازمة من السلاح والعتاد والخيل والرجال، ولا تحددت أبعادها ومصائرها، ولم تعرف جيداً أنها ستواجه خيانات ومؤامرات».
«فيد، وهيمنة، وإخضاع»، ثلاثية مُتلازمة، أنتهجها التحالف «الإمامي – القبلي» على مدى قرون، ولم يجني اليمن – كل اليمن – منه سوى الخراب، صحيح أن الأمم الوحشية – كما قال ابن خلدون – أقدر على التغلب ممن سواها، إلا أنها كما اثبتت الأحداث لا تستطيع أن تحكم أو تتحكم بنفسها أو بسواها.