ياسين التميمي:
يوم الثلاثاء القادم ستشهد مدينة تعز احتشاداً جماهيرياً دعا إليه المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية بالتنسيق مع القوى السياسية في المحافظة، سيكون بمثابة تذكير بالحق في التغيير والخلاص تأسيساً على الإرادة الشعبية غير القابلة للتصرف، وفي خطوة يُعيد من خلالها المناضلون تصويبَ البوصلة وتحصين الوعي وتوضيح الحقائق حول القيمة العظيمة لثورة الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011 الشبابية الشعبية المباركة.
يحدث ذلك بعد مرور أربعة عشر عاماً على اندلاع هذه الثورة، في سياق حدث الربيع الذي عم عالمنا العربي وأحيا في شعوبه الأمل بإمكانية التغيير. عقد ونصف من الأحداث الجسام التي وضع جزءٌ كبيرٌ منها أمام الطريق المحفوف بالأمل الذي شقته الثورة لبلوغ مرحلة الاستقرار والازدهار والدولة القوية والشعب الحاكم.
خلال عقد ونصف قاتل أعداء ُالتغيير وأنصارُ الثورات المضادة بالسلاح وبالدعاية السوداء والكي المتواصل للوعي، لإثبات أن الربيع العربي كان عملاً مغامراً ومقامراً وكارثياً، مع أن التغيير سنة الله في الخلق وقدراً محتوماً يتحقق بموت الرؤساء والحكام، إن استحال تحقيقه بالإرادة الشعبية من خلال الانتخابات والثورات.
لم يكن الشعب الذي خرج بالملايين للمطالبة بالتغيير مجنوناً أو سفيهاً أو مغامراً أو مقامراً، فقد طالب فقط بإصلاح النظام السياسي، إصلاحاً يلمسه من خلال الاحترام الكامل لإرادته على نحو ما ينص على ذلك الدستور، ومن خلال الأداء الكفؤ للمؤسسات ورقي الخدمات المقدمة للشعب والنهوض الحضاري على كافة المستويات، ولم يكن هو من حدد الطريقة التي تتم من خلالها استجابة الحكام، بقدر ما حددها الحكام أنفسهم بكبريائهم وعنادهم واستهانتهم بشعوبهم.
لم يطالب الشعب اليمني ومثله بقية شعوب دول الربيع بأشياء غير قابلة للتحقيق بالوسائل المنطقية وغير الأخلاقية، لم يطالب مثلاً بضم كندا أو غرينلاند، ولا الاستيلاء على قناة بنما والسطو على خليج المكسيك، ولم يقل إنه سيطرد أكثر من اثنين مليون من قطاع غزة ليحوله إلى منتجع سياحي ليصطاف فيه الأمريكيون والأوروبيون وأثرياء العالم.
مطالب الشعب كانت واضحةً وسهلة وقابلة للتحقيق؛ أن يتم التغيير في أسلوب إدارة الدولة وإزالة الصدأ الذي لف العقل السلطوي المتركز في شخص أناني وحاقد ويفتقد للمروءة ولديه قابلة للتضحية بكل الثوابت الأخلاقية والإنسانية والوطنية ليبقى في السلطة. شعوب الربيع العربي لم تُردْ أكثر من ذلك لكي تتحسن أحوالها وتخطو إلى الأمام.
الربيع العربي جسد بدرجات عالية من المسؤولية الوطنية المعنى الحقيق للانضباط في مرحلة تغيير حساسة وخطيرة ومليئة بالتحديات، انفتح الشعب على كل المبادرات التي من شأنها أن تجعل من التغيير عملاً وطنياً تشاركياً، وضمن الربيع للحكام مخارج آمنة ومشرفة في معظم الأحيان، وأبقى لها حصة في الحكم، وعمل الثوار ما بوسعهم لعدم الدخول في مستنقع الفوضى، التي حاول البعض أن يُلصقها بالربيع بدون أدلة قابلة للتصديق.
الفوضى الخلاقة التي بشَّرت بها الولايات المتحدة تحققت على أيدي الثورة المضادة التي نهضت بكل إمكانياتها المالية وقوتها الغاشمة لمواجهة طموحات الشعوب المشروعة للتغيير، أباحت الثورة المضادة كل المحرمات وهدمت منظومة القيم، وأهدرت الدماء وأطلقت العنان للسيناريوهات الغاشمة لكي تفتك بأمتنا وتدمر دولها وإنجازاتها.
موجة الثورة الخُمينية الشيعية التي ارتطمت وتحطمت عند حدود العراق الشرقية عام 1988، بعد حرب استمرت ثمانية أعوام، وجدت طريقها إلى أربعة عواصم عربية بكل سهولة بفضل التسهيلات التي قدمتها أنظمة الثورة المضادة، والإملاءات الأمريكية والصهيونية الشريرة على هذه الأنظمة، وإليكم كيف تم ذلك:
لقد جعل الغرب الصهيوني بلداناً سنية تفتح فضاءات التأثير السياسي والإعلامي من منظمات ومؤسسات إعلامية ومراكز أبحاث وأسواق ومصالح اقتصادية، أمام كوادر حلف الأقليات الدينية بمن فيهم الشيعة بمختلف طوائفهم، وأغلقت الأبواب أمام الأغلبية وشرَّدتهم ودفعتهم إلى الشتات وأغرقت الآلاف منهم في قوارب الموت فوق أمواج بحر إيجه والبحر المتوسط، وفي المناطق الثلجية في الحدود الشرقية لأوروبا.
لم يكن الربيع العربي هو الذي رهن العراق العربي بيد إيران وأطلق يد الميلشيات الشيعية للعبث فيه، وأطلق شبح داعش ليجتاح ضمن خطة مدروسة ومرتبة جيداً غرب العراق وشرق سوريا وينشئ دولة ويجلب الحلف العسكري الدولي الذي أُعدَّ لهذا الغرض بهدف استكمال مخطط الفوضى الخلاقة، وكانت الحكومات العربية من خارج الربيع العربي جزء من هذه المعركة العبثية التي تدفع المنطقة ثمنها حتى اليوم.
إن إطلاق سوريا من قبضة الحلف الطائفي، قد جاء في سياق تحول فارق في المنطقة، لم يتحقق هذا التحول إلا بالعودة إلى جذر الثورة السورية وإلى هدفها الأخلاقي الذي تجسد في مطلب التغيير، واستعادة إرادة الشعب السوري المصادرة والمُهانة، تلك الثورة التي تشبه بقية ثورات الربيع العربي، هو أمر يدعو إلى التأمل في مجريات الأحداث والتدبر في الدلالات السامية للتغيير الذي أرادت الشعوب إنجازه بأقل التكاليف وبكرامة موفورة للجميع.
وأخيراً فإن الوضع الراهن الذي يعيشه اليمن، ويتجلى في هذا الركام الفوضوي من المشاريع السياسية والعسكرية وجماعات ما دون الدولة، قد صُمم للأسف؛ ليكون عائقاً كبيراً أمام تحقيق إرادة الشعب اليمني المشروعة، كما جسدتها ثورة الحادي عشر من فبراير والمسار العظيم للانتقال السياسي الديموقراطي، المنبثق عنها.
هذا الركام الذي يسد الأفق يعبر عن إصرار مستمر على جعل الخلاص مستحيلاً والبدائل المتاحة في الأفق كارثية، ولأن الحل متاح والنموذج السوري واضح، فإن ثمة من لا يرغب بنهاية قريبة لحرب اليمن، ويدفع بالمرجفين والأبواق النفاثة بالسم لمواصلة الإساءة إلى ثورة فبراير وأبطالها، ومحاكمتهم، مدفوعين بالدعم السخي الذي يتلقونه من صندوق الثورة المضادة.