قبل عقد من الزمن قالت الحكومة اليمنية، كما نشرت صحيفة الشرق الأوسط آنذاك، إن البلد بحاجة إلى 40 ألف طبيب على نحو عاجل. بدلاً عن ذلك حصل أفقر البلدان على الحرب والحصار، ودخلت الأمة اليمنية عصراً ممتداً من الشتات والفوضى. ثمة أمل خلف كل حرب، وهناك دائماً طرق للنجاة تظهر تباعاً مع موت الجنرالات أو سأمهم.
لم يكن اليمن، ساعة نشوب الحرب، في أسوأ حالاته وحسب، بل كان قد امتلأ بكل الأسباب التي ستجعل من أي حرب نشاطاً مستداماً وسوقاً. فخلال عقوده الأربعة في السلطة استطاع صالح خلق مجتمع على شاكلته، ومن خلال المفاتيح الاجتماعية جعل اللصوصية أسلوب حياة. أنهى حياته ضحية لقواعده ونمط حياته. فعندما لاحظ شركاؤه اللصوص أن الغنيمة أقل من قسمتها على رجلين قاموا بقتله.
ورثه هادي تركة الرجل القتيل، وقد سبق له القول إنه جلس إلى جوار صالح عقدين من الزمن وتعلم منه أنماط الحكم والحكمة. هو الآن لاجئ في بلد مجاور لليمن، يعمل أبناؤه في كل الشؤون المتعلقة باللصوصية والجريمة. وقد قام أبناؤه بإعفاء كبار تجار النفط من الضرائب، حتى وهم يرون بلدهم تأكله الميكروبات والجوع.
أحد أقرب رجاله، وهو تاجر نفط عظيم، قام بإعفاء باقي رجال النفط من الضرائب، كما أعفى كل تاجر ومستورد طرح على السلطة هذا السؤال: لماذا يتوجب علي، دوناً عن الآخرين، دفع الضريبة؟. لا حدود لنهم الرئيس وعياله بالمال، حتى إن نجله يتسلم رواتب ربع مليون جندي قال إنهم ينتشرون في المنطقة العسكرية الرابعة، مركزها في عدن.
كشفت أحداث عدن الأخيرة تلك الأكذوبة، وشاهد العالم كيف اقتحم مسلحون قبليون قصر الرئيس ولم يجدوا أحداً من جيش ابن هادي الجرار. مؤخراً أصدر هادي توجيهاً يلغي مشروعية وقوة كل ما يصدر عن وزير داخليته القوي “الميسري”. يتحدث الميسري كبطل، ويسلك كبائع عبيد. ولا بد أن الغنيمة، لأسباب لوجيستية معينة، لم يعد ممكناً تقاسمها مع الميسري.
الشرعية لم تعد مشروعاً للدولة. ضلت طريقها وأصبحت مشروعاً منفصلا عن موضوعه. الحرب، من جهتها، فقدت معناها المتعارف عليه بحسبانها عملية شاملة تهدف إلى إحداث تغييرات استراتيجية.
تخلت الحرب والشرعية عن اليمنيين وتركتا لهم الصراع والفوضى وما ينتج عنهما. التحقت الأحزاب اليمنية بحفلة اللصوص والمجرمين، وانشغل حزبان كبيران في محافظة تعز، المحافظة الأكبر، بالصراع حول الغنيمة والنفوذ. تشبث حزب الإصلاح بفكرة كاذبة عن الدولة، وتشبث التنظيم الناصري بكل التنظيمات المسلحة المتطرفة معتقداً أنها ستعينه في الصراع ضد خصمه.
استطاعت الإمارات تصفية أي شكل للنشاط الحزبي في مدن الجنوب، وصل الأمر حد تجريم أي فكرة عن السياسة القائمة على نظام حزبي. إذ سبق لمدير أمن عدن أن توعد باقتحام مقرات كل الأحزاب. تمالأ الاشتراكي مع التشكيلات العسكرية الممولة إمارتياً، وذهب الناصري يعمل مع التنظيمات الإرهابية، أما الإصلاح فسلك طريقاً آخر: اندفع إلى الجيش والمال، وبسط نفوذه داخل هذين الحقلين، وراح يمارس اللصوصية مدعياً أنه رجل الدولة وحارس المؤسسة.
وإذا كان الناصري قد ذهب ليلهو مع القتلة فإن الإصلاح راح يقامر مع أصدقائه اللصوص، وصار واحداً من ذلك الطابور الدولجي الأنيق. قال محافظ سابق لتعز إنه التقى القادة الاشتراكيين في المدينة وعرض عليهم العمل معه. فهم ـ كما قال ـ الفئة الوحيدة التي نأت عن الصراع حول الغنيمة، ولم تقاتل من أجل تركة الرجل القتيل. إلا أنه، قال، عندما ذهب إلى عدن وجد اشتراكيي تلك الأرض يلبسون زي اللصوص، ويضعون البنادق على الأكتاف على طريقة القتلة مأجورين.
تفتك حمى الضنك والكوليرا بالفقراء غير القادرين على الحصول على لقمة العيش. تدفقت المنظمات الدولية على اليمن، وأخبرتني طبيبة تعمل في مركز طبي بين تعز وإب عن كيف تفرغ إدارة المستشفى مخازنها من الأدوية المجانية وتبيعها إلى الصيدليات القريبة. هذا المشهد عام، وثمة شواهد وبيانات كثيرة تتحدث عن كيف أفسد اليمنيون العمل الخيري في البلد.
يترك الحوثيون البلدة فيتدفق إليها اللصوص الجمهوريون. يصار إلى أنه علينا أن نعمل في عدهم معاً: كم لدينا من اللصوص، وكما سقط لنا من القتلى في هذه الحرب. أي: كيف يستشهد الرجل لكي يفسح المجال للص. إنها تركة أكثر من ثلث قرن من المدرسة المدمّرة، مدرسة الحكم التي أسسها صالح وغيّر من خلالها الخارطة الأخلاقية والنفسية لشعبه. فقد قيل إن شعب الخليفة سليمان بن عبد الملك أحبوا الطعام تيمناً بحبه له، ثم أحبوا العمارة اقتداء بشقيقه الذي صار خليفة وكان يحب العمران. وقد سبق للعرب أن قالت: كما يولى عليكم تكونون. وأن الحاكم ينتج أشباهه.
ثمة ملكيون على الضفة الأخرى، وهم يمنيون. جاء الحوثي بنظرية في الحكم لطالما رفضتها القبائل حتى قبل اكتشافها لفكرة الجمهورية. غير أن تلك النظرية اتسعت لما هو أكثر حسماً في وجدان القبائل من طبيعة نظام الحكم: الغنيمة. القبائل التي قاتلت الحوثي سرعان ما عادت وقاتلت إلى جانبه بعد أن وجدت المنظومة الحوثية تتسع لأشكال عديدة من اللصوصية، وأن الحوثيين أنتجوا نمطاً للصوصية الخضراء يشمل الجريمة والغفران في آن واحدة. إن نمط اللصوصية الخضراء، كما جاء به الحوثيون، لا يترك خلفه إحساساً بالذنب أو الإرباك، كما قد يجري في أراضي هادي المحررة. فاللصوصية الخضراء تحظى برعاية مباشرة من رجال مبجلين يُعتقد أنهم أحفاد النبي الأخير.
قتلت الأمراض، الجوع، الألغام، واللصوص أكثر مما قتلت الحرب. طبقاً لبيانات منظمة محلية فإن الفارق بين العدد الذي قتله الحوثيون وعدد ضحايا “الضربات الجوية الخاطئة” آخذ في التقلص منذ 2017. تبدو الحرب سوقاً لتبادل المنفعة، وقد سبق أن كتبت عن شقيقين أحدهما يزود جيش الحوثيين بالطعام والآخر يفعل الشيء نفسه مع جيش الدولة. أجابني أحد رجال القبائل المعروفين، عندما سألته عن طبيعة الحرب في الجبال، قائلاً إن حروبهم مجرد نقاش. وأن القبائل عادة ما يحيلون إلى حروبهم التي تطرأ بين فينة وأخرى مستخدمين الفعل نفسه “يتناقشون”. لقد أفسد اليمنيون معنى الحرب، كما سيفعلون مع فكرتي الجمهورية والديموقراطية. وها هم يفسدون أفكار أخرى عظيمة كالحزب والاستقلال والنبي، وأشياء أخرى.
في مغارة صالح تلك، أو هذه، غرقت السعودية، وتلعب الإمارات. لم يسبق للإمارات، التي تأسست بعد مولد معمر الإرياني ببضعة أعوام، أن دخلت أرضاً مثل بلادنا. حديثاً قامت بسحب أسلحتها الثقيلة وعاودت الكرة مستخدمة طرق التهريب. كما لو أنها قد وضعت على عاتقها مهمة أن تسمم مياه بلد عجزت عن احتلاله.
لم يعد في البلد ما يمكن إفساده، فالجمهورية التي تقاتل لأجل تمكين رجال هادي من بيع النفط بلا ضرائب، والملكية التي قالت واحدة من دعاياتها إنها ستفتتح فرعاً لمطعم كنتاكي ابتهاجاً بمولد النبي، والانفصاليون الذين قال رجلهم القوي إنهم يريدون استعادة دولتهم حتى تكون قادرة على خدمة “مشائخنا الأجلاء في أبو ظبي”، والأحزاب التي انخرطت في الطابور الطويل المليء بالقتلة واللصوص .. كل ذلك لم يعد ممكناً إفساده. إنها تركة الرجل القتيل، ولن تهزمها سوى الأيام.