توفيق السامعي:
لِمَ قال: امرأة ولم يقل: فتاة مثلاً؟!
هذا اللفظ دليل على أنها كانت امرأة متقدمة في السن ناضجة وعاقلة، أو متوسطة العمر، وربما كانت متزوجة في تلك الأثناء ولكنها ملكة، ولأن القرآن الكريم -في رواياته- يركز على الحدث الأهم في قصصه وأبرزها ولا يهتم للفروع أحياناً، فلن يفيد هنا ذكر إن كانت متزوجة أم لا طالما ركز على الشخصية الأهم وهي الملكة، والحدث الأهم وهو المُلك والديانة والزيارة، ولا صحة لأية أحاديث تقول إن سليمان تزوجها، بدليل أنه ودعها وعادت إلى بلادها وقومها لتحكمهم بالدين الجديد والمتغير الجديد.
هذا النضج ورجاحة العقل انعكس في التروي بعدم الاستجابة لمشورة الحرب من علية قومها، وأرادت أن تختبر صاحب الرسالة ومعرفة قوته فيما يسمى اليوم بالعمل الاستخباراتي بين الدول، واتضح في نهاية المطاف أنها كانت محقة برأيها، ومن خلال هذه العلامة والآية يتضح أنها كانت مستحقة لأن تكون ملكة على قومها الذين حركتهم النشوة وغرور القوة وردة الفعل السريعة.
قد يقول قائل: إن الله وصف بنات شعيب اللتين خير نبي الله موسى بتزوج إحداهما بنفس الوصف “امرأة”، فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾( )، فقد ورد لفظ “امرأة” في القرآن مقترناً كزوجة أو مسنة ما عدا اللفظين في ملكة سبأ وبنتي شعيب، ولا توجد أية لازمة من لوازم الزواج في اللفظين إلا أن يكون كبر سنهن فقط، فإذا عرف عن بنات شعيب إضافتهما لأبيهما كتعريف، فإن ملكة سبأ لم يشر إليها بأيٍ من لوازم التعريف والإضافة بحالتها الشخصية الاجتماعية، وهنا قد يفسر على أنه إما امرأة عاقلة مسنة، أو متزوجة، ولم تكن هناك حاجة أصلاً لذكر زوجها.
فبعض ملكات اليمن كن متزوجات، وما دوّن عنهن يدوّن لفعلهن وسِيَرهن كملكات، وتجاهل أزواجهن مثلاً.
فالسير لا تكتب إلا للأفعال الكبيرة والإنجازات للملوك وسياستهم وحروبهم دون الاهتمام بالجانب الاجتماعي أحياناً؛ فالملكة أروى الصليحية – مثلاً- بعد توليها الملك تم تجاهل ذكر زوجها، وركز التدوين على أفعالها هي كالاهتمام بالأصل وترك الفرع.
لكن هناك بعض الإشارات من قبل الهمداني أن سليمان تزوجها وعمره أربعون عاماً ، وأنها ولدت لسليمان ولداً اسمه رحبعم ، ويبدو أنه أخذها من التوراة، إذ لا دليل على هذا الأمر، وكل آراء الإخباريين عبارة عن روايات لا أدلة عليها بالمنهج العلمي الحديث، ولا دليل عليها من النقوش. واضطرب الأمر على الهمداني نفسه؛ فمرة يقول تزوجها سليمان، ومرة يقول: اختلف الناس في تزويجها، فقال أكثر الناس: زوجها ذا بتع ملك همدان، وقال آخرون: زوجها بسدد بن زرعه، وهو حمير الأصغر، وذو سحر من ولد سدد بن زرعه ، ويبقى الأمر رجماً بالغيب ولا دليل عليه حتى تظهر نقوش تتحدث عن ذلك، ولا أهمية لأمر تزويجها إلا من باب صلتها بسليمان وما ترتب عن لقائها به دحضاً للروايات والأساطير التوراتية والأثيوبية، وإن كانت مكثت عنده أم عادت إلى مملكتها، وعودتها هو الأرجح، وإن عادت فمعنى ذلك نفي تزويجها بسليمان.
في منهجي البحثي غالباً لا آخذ بروايات الإخباريين لأن رواياتهم يغلب عليها الحشو والأساطير والغلو، وتؤخذ شفوياً بالتواتر وتكون منقطعة ولا صلة بين أجيالها، وتخلو من الأدلة المادية من لقى أثرية أو نقوش مسندية وهي تعتبر سيدة الأدلة.