توفيق السامعي:
ملكة سبأ وعلاقتها بالحبشة
يتداول الأثيوبيون أن ملكة سبأ ومملكتها إنما كانت عندهم في أثيوبيا وهي من أسست مملكة أكسوم، كما في أساطيرهم الشعبية، ويعتقدون أن هذه الملكة حينما زارت سليمان في الشام تزوجها وأنجبت منه ولداً اسمه “منليك” ولما توفيت دفنت عندهم( ).
إعتمد الأثيوبيون في الأساس على ورود زيارة ملكة سبأ في التوراة على أنها من كوش، وكوش تعني الأحباش، “ففي الآية السابعة من الإصحاح العاشر من التكوين، وفي الآية التاسعة من الإصحاح الأول من أخبار الأيام الأول: أن (شبا) من (كوش بن حام)، فهم من الكوشيين، أي: من الحاميين، على حين أننا نرى في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح العاشر من التكوين أنهم من الساميين، وبين الحاميين والساميين فرق كبير كما هو معلوم”( ).
يبدو أن الأثيوبيين اعتمدوا على رواية المؤرخ اليهودي (يوسفوس) الذي يذهب إلى “أن هذه الملكة كانت ملكة (أثيوبيا) الحبشة ومصر، زاعماً أن Sapa عاصمة الأحباش، وأن اسم هذه الملكة Naukalis .
ونجد زعم (يوسفوس) هذا شائعاً فاشياً بين أهل الحبشة، فهم يذهبون حتى اليوم إلى أن أسرتهم المالكة هي سلالة سليمان وزوجه ملكة (شبا)، ويدعونها (ماقدة) Makeda “( ).
“ويرى علماء التوراة أن ذكر (شبا) و(سبا) تارة في الكوشيين أي: الحاميين، وتارة أخرى في اليقطانيين، أو في اليقشانيين، هو تعبير وكناية عن انتشار السبئيين، ونزوح قسم منهم إلى السواحل الأفريقية المقابلة، حيث سكنوا فيها، وكونوا مستوطنات بها في أرتيريا وفي الحبشة وفي أماكن أخرى، ولهذا ميزتهم التوراة عن بقية السبئيين المقيمين في العربية الجنوبية بجعلهم من أبناء (كوش)، وميزت السبئيين المختلطين بقبائل (يقشان) بإرجاع نسبهم إلى (يقشان)، وبذلك صار السبئيون ثلاث فرق، بحسب رواية التوراة، لانتشارهم وإقامة جماعات منهم في مواضع غريبة عن مواضعهم، وذلك قبل الميلاد بالطبع بمئات السنين”( ).
يتحدث لينكولوس رودوكانا كيس عن تأسيس دولة أكسوم بالقول: “من الجدير بالملاحظة أنه قامت في ذلك الوقت ثقافة عربية جنوبية وانتشرت اللغة العربية الجنوبية [يقصد لغة المسند اليمنية] في الجزء الأفريقي الذي عرف فيما بعد ببلاد الحبشة، وهكذا نرى الدول العربية الجنوبية تشق طريقها إلى أفريقيا وتؤسس وطناً جديداً”( ).
وهذه “الدولة الأفريقية التي نشأت أصلاً من جاليات يمنية نجحت مع توالي الزمن وقوتها في تأسيس هذه الدولة الأفريقية التي اضطرت إلى إقامة حاميات عسكرية على الشاطئ العربي المطل على البحر الأحمر للدفاع عن أملاكها الخارجية”( ).
فالحضارة الأثيوبية فرع من الحضارة العربية الجنوبية؛ لأن الحبشة استوطنها مهاجرون من الساحل اليمني( ).
كانت أبرز القبائل التي هاجرت إلى الحبشة في القرن الخامس قبل الميلاد هي حبشت والأجاعز، والمهرة وسحرت، واستطاعت هذه القبائل اليمنية المهاجرة أن تتفوق على أصحاب البلاد من القبائل المحلية الحامية والأفريقية نتيجة لتفوقها الحضاري عليها، وأن تبسط عن طريق نفوذها الاقتصادي سلطانها السياسي والثقافي على الحبشة، وكان لهذه القبائل اليمنية الدور الكبير في تأسيس وتكوين دولة أكسوم( ).
لم تكن هجرة تلك القبائل هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها قبائل أخرى معافرية وأوسانية وسبئية في قرون سابقة للعمل في التجارة، ربما في القرن العاشر قبل الميلاد، توالت تلك الهجرات الطوعية التجارية أو التوسعية حتى جاءت موجة هجرة كبيرة أخرى من المعافريين والأوسانيين لحقت بمن سبقها فراراً من بطش وتنكيل الدولة السبئية بقيادة كرب إل وتار حينما غزا المعافر وأسقط دولة أوسان، حتى إن بعض قبائل المعافر كونت لها مدناً محلية في الحبشة، وكانت القبائل المتأخرة لاحقة بها. فالأوسانيون الذين نزحوا إلى الحبشة كان لهم تواجد وتأثير كبير فيها، وقد ظلت السواحل الحبشية تسمى بالسواحل الأوسانية حتى القرن الأول بعد الميلاد، وقد ذكر هذا الأمر في كتاب (الطواف حول البحر الإرتيري).
وهذا ما تثبته النقوش القديمة لتاريخ أقدم من هذه التواريخ التي ذكرها فاروق أباظة.
ويذكر مطهر الإرياني أن (أكسوم) من قبائل كسمة في ريمة؛ إذ لا تأتي صيغة هذا الجمع وتحديداً هذا اللفظ إلا في اليمن من مفرد كُسمة( ).
وهناك أسماء يمنية معروفة بهذا اللفظ (كسم) وتجمع على (أكسوم)، كما في نقش CIH 443 والذي يقول:
ن ف س/ك س م/ب ن/د
ك ع/و ح و ل م/و ل ي
ي ق م ع ن/ع ث ت ر/ش ر ق ن
ذ ي ش أ ن هـ و( ).
المعنى:
هذا نصب كسم بن دكع وحولم والدعاء للإله عثتر بقمع وإصابة كل من يتعرض له بسوء..
مثلت اليمن قنطرة عبور بين أفريقيا والهند إلى آسيا والبلاد والدول والإمبراطوريات الواقعة على البحر المتوسط، ومتحكمة بالطرق التجارية العالمية، وكانت وظيفتها ليس فقط أشبه بوكيل حصري لتجارة آسيا وأفريقيا والهند بل المتحكمة بالسوق التجارية العالمية، جعلها أغنى البلاد العالمية يومها، الأمر الذي أطمع مختلف الإمبراطوريات وتهافتها على اليمن. وبسبب ذلك التحكم والغنى الفاحش الثراء عملت الدول اليمنية المختلفة وخاصة المعينية والسبئية على إنشاء المحطات التجارية، وهي عبارة عن مدن متفرقة بين جنوب الجزيرة وحتى شمالها لحماية تلك التجارة وإيواء القوافل وتزودها بكل ما تحتاجه من مؤن وغيرها، وهذا ما دونه القرآن الكريم أيضاً، وكشفت عنه النقوش القديمة. ومما جاء في القرآن الكريم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾( ). وظاهرة هنا بمعنى قوية وآمنة ومنتصرة بدليل التوضيح نهاية الآية (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين). فالقرى المباركة هي الشام وبيت المقدس كما في كل كتب التفاسير؛ أي في شمال الجزيرة العربية.
من تلك القرى والمدن التي أنشأتها الدول اليمنية كمحطات تجارية، أو تحالفت معها كمستوطنات محلية: معان الشمال، والتي تسمى أحياناً معين مصر في خليج العقبة، وكذلك مدينة الفاو عاصمة مملكة كندة فيما بعد اضطراب وضعف الدول اليمنية، وكذلك ددان العلا، ونجران، وغيرها من المدن التي كانت مسير مرحلة يوم، لكن الأشهر منها والتي صارت ممالك مستقلة فيما بعد هي المدن المذكورة آنفاً.
هذه كانت شمالاً، وكانت هناك مدن شرقاً التي استلزمت قيام دولة حضرموت فيما بعد، وكذلك قتبان وأوسان، ومن مدنها الشحر ومهرة وظفار كذلك.
أما غرباً، ومن لوازم تلك التجارة وتقوية الدولة فقد أسست مدناً في الحبشة قبل أكسوم في “عدوليا” و”يحا” وغيرهما، ويظهر ذلك جلياً من خلال النقوش السبئية في الحبشة والصومال وغيرها.
لم يثبِّت الأحباش قصة ملكة سبأ فقط في تاريخهم معتمدين على التوراة وحسب، بل إنهم أخذوا حتى اسم بلدهم منها؛ فقبلاً كانت تسمى بلاد الحبشة، وبلاد كوش، أو بلاد الزنج، ولما وجدوا إشارات سواء في بعض النصوص التوراتية أو الكتابات اليونانية تقول إن بلاد كوش في أرض أثيوبيا اعتمدوا هذا الإسم الأخير.
“وحينما تحررت الحبشة من الاحتلال الإيطالي عام 1941م أصدر الامبراطور هيلا سيلاسي مرسوماً باعتماد هذا الإسم [أثيوبيا] بشكل رسمي للبلاد”( ).
مع هجرة اليمنيين الأوائل إلى الحبشة ما قبل دولة أكسوم حمل معهم المهاجرون حنينهم لبلادهم، وهناك أطلقوا العديد من المسميات على مناطق ومظاهر الحياة في الحبشة، ولا شك أنهم حملوا معهم ثقافتهم التراثية والشعبية وقصصهم ومنها قصة ملكة سبأ، وحينما يقول الأثيوبيون اليوم أنها أمهم أو جدتهم Makeda فلا غرابة في ذلك؛ فهم جزء من بقايا ذلك الأمر والتراث.
فبعض الأسماء ما تزال قائمة حتى اليوم في الحبشة، والبعض منها بصورة محرفة قليلاً، فمثلاً: أسب=عصب، وهي من موانئ الحبشة، عبارة عن إسم محرف لكلمة سبأ، وهو اسم قد كتب عدة مرات على كتابات الجغرافيين اليونان أن تسمية ذلك الميناء باسم سبت أو سبأ في جنوب بلاد العرب، يذكرنا بالموقع الذي هبط فيه المهاجرون والقبائل المهنية التي كانت تستخدمها( ).
وفي إقليم “تجراي” منطقة تعرف باسم ساهارات، ونفس الإسم سهرتان (س ه ر ت= س ه ر ت م) يتكرر عدة مرات في النقوش اليمنية القديمة، وهي اسم المنطقة التي يحدها من الشمال وادي بيش ومن الجنوب وادي مور في تهامة اليمن( ).
وبالقرب من سهرتان في تجراي، توجد منطقة أخرى كانت لها أهميتها فيما مضى، تعرف باسم هاوزين، وهذي تذكرنا بهوازن لدى الهمداني و(هـ و ز ن) المذكورة في نقش 7/CIH 343 (أرض/ هـ و ز ن) وهي التي تحمل نفس الإسم اليوم في جبل حراز. وكذلك أطلق المستوطنون الجدد في الحبشة اسم مرب على نهر هناك نسبة إلى سد مارب المعروف( ).
وكما كانت الأسماء اليمنية منتشرة في الحبشة عاد بعضها من الحبشة إلى اليمن؛ فلفظ (تعز) يمني انتشر في الحبشة، لكن مع احتلال الحبشة لليمن أعادوا ترميم حصن تعز واستحدثوا فيه بعض الاستحداثات في قمته، وجعلوا إشارة الصليب فوق بوابته العليا.
هذا الاسم كان يطلق على منطقة في الحبشة سابقاً أرتيريا اليوم “تعزية” Ta’izziya التي استوطنها اليمنيون قديماً، ومع الاحتلال الحبشي لليمن ودخولهم من المخا كانت تعز منطلقاً وبوابة عبور إلى ظفار، فاستوطنوا الحصن القتباني (تعز/القاهرة) وأعادوا ترميه والإضافة إليه.
…. يتبع