توفيق السامعي:
تابع معرفتها القراءة والكتابة
وأما ما جاء من ذكر البسملة في بداية الرسالة وورود إسم “الله” والرحمن والرحيم ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾( )، فيبدو أنها جاءت بحسب فهم وعقلية العرب المسلمين في الإسلام لتقريب المعنى كي يفهمه المسلمون، أو أنه كان أسلوباً جديداً في الصياغة والديباجة لا تعرفه مملكة سبأ من قبل؛ كونه جاء من نبي مرتبط بديانة سماوية، ومن الطبيعي جداً تثاقف الشعوب وأخذ بعضها من بعض سواء في الجوانب الثقافية أو العلمية أو الصناعية أو الاجتماعية وتلاقح أفكارها، ومن هنا من خلال الألفاظ عرفت أنه كريم، دون تهديد ووعيد، كما يفعل عادة ملوك الأرض.
فـ”الله” بهذا اللفظ وهذا الرسم لم يكن في اللغة العبرية؛ فالعبرية كما في بقية الساميات تقول للإله: “إل”، و”آله”، و”ياهو”، و”ه ل ه/ه ال اه” بمعنى: (الله).
و”(الله) في الإسلام هو ولا شك آخر مظهر من مظاهر تطور معنى الله التاريخي في ديانة العربية الجنوبية. وهذا الله المسلم [في الإسلام] لا شريك له، وهو يجب أن يعد ضمن آلهة بلاد العرب الجنوبية”( ).
لكن “الرحمن” ورد في العبرية سواء في العهد القديم*، أو النقوش، وحتى النقوش اليمنية في العهد الحميري التي تذكر إله السموات (رحمن ن ذو سماوي)، والذي لم تكن تعرفه العرب قبل الإسلام، باستثناء اليمن بالطبع، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً﴾( )، ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾( )، وجاء على لسان مريم (العبرية): ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾( )، وعلى لسان إبراهيم (الكنعاني) ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾( ).
وإذا ورد بنفس اللفظ على لسان إبراهيم الكنعاني (رحمن) ولم يكن لتقريب الصورة للعرب فإن أول من عرف هذا اللفظ والصفة هو إبراهيم قبل آلاف السنين من سليمان ولم يكن من عهد سليمان أو التوراة وحسب؛ كون إبراهيم سبق موسى بحوالي ألف عام، كما عند بعض المؤرخين.
لكن الدمج بين اسم الله والرحمن الرحيم في رسالة النبي/ الملك سليمان تعبر عن حالة العرب والساميين بشكل عام، كمقدمة منه إلى الملكة أن رسالته دينية في الأساس وليست ملكية، وهو ما أشكل عند ملكة سبأ وجعلها تتروى وتلجأ إلى امتحان سليمان إن كان ملكاً أم نبياً؛ فاسم الله، كما يقول ديتلف نيلسن، كان معروفاً كإله مميز عند كل العرب الساميين سواء الشماليين أو الجنوبيين.
“ففي لهجات عربية شمالية نجد (أل)، وفي السريانية والآرامية نجد (آلها)، فهي نفس الكلمة المعرفة ومعناها (الله)، وهذا (الله) لم يأت فقط مع محمد [صلى الله عليه وسلم] بل كان معبوداً مقدساً في أنحاء بلاد العرب منذ العصور القديمة”( ).
ومن هذا الباب حكمت على الكتاب بأنه كريم (إني ألقي إلي كتاب كريم)، حتى أسلوب إيصال الرسالة كان لافتاً بالإلقاء والقذف من الطائر، وربما كان أول طائر يعرف حمل الرسائل/الكتب قبل معرفة الحمام الزاجل، وهذه الألفاظ تدل على أنها رأت إلقاء الكتاب من الطائر الهدهد أثناء الرمي ولم يصل إليها عن طريق رسول أو وسيط، وإنما مباشرة إليها.
أين نقوشها إذاً؟
من خلال تحليل كل ما مر بنا عن قراءتها وكتابتها وتعلمها فهذا ينبغي بل ويحتم أن يكون لديها نقوش وكتابات ومدونات سواء صخرية أو جلدية، أو شجرية أو عظام.
لكن حتى الآن لم يتم الكشف مطلقاً عن أية نقوش أو تدوينات لها، حتى عند الذين قالوا إنها لم تكن في اليمن فلم توجد أية نقوش تدل عليها لا من قريب ولا من بعيد في أي أرض حتى الآن.
وأكثر غرابةً أيضاً أن ديانتها التي غيرتها والتحقت بها (اليهودية) لم يرد لها أي ذكر أو إشارة في نقوش اليمن كلها خاصة نقوش ما قبل الميلاد والتي كان ينبغي أن تكون هناك ولو بعض الإشارات إليها، ولئن قال العلماء إنها كانت في القرن العاشر قبل الميلاد مع سليمان، فإن هناك نقوشاً للقرن التاسع قبل الميلاد، أي بعدها بعهد قريب، وينبغي لهذه النقوش أن تشير ولو ببعض الإشارات إلى عهدها وذكرها وتسميتها وديانتها وإنجازاتها ورحلتها، خاصة وأن رحلتها سمعت بها كل الدنيا قديماً لدرجة أنها تدون في الكتب المقدسة الثلاثة.
لكن هذا أيضاً عندي من القرائن العظيمة التي تشير إلى أن كل النقوش اليمنية التي قيل عنها وعن أقدمها تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد إنما هي نقوش قديمة لتواريخ أكثر زمناً من هذه القرون، وأنها كانت قبل عهد هذه الملكة وليس بعدها، ومن هنا ينبغي البحث بدقة حول هذه الفرضية؛ لأنه لو كانت بعدها فعلى الأقل سنجد ولو إشارات بسيطة لها كما هي بعض الإشارات للملوك الآخرين وأحداثهم.
*ملحوظ:
العهد القديم دون في القرن الثاني قبل الميلاد، وتعرف بالمشنا؛ أي بعد عهد موسى بحوالي 1300 سنة، أي بعد الأسر البالي والشتات اليهودي، لذلك لم تعد التوراة منذ ذلك الحين محل استشهاد لفظي أو مكاني؛ لأن ألفاظها الأصلية تغيرت كثيراً ولم تعد موجودة.
…..يتبع