توفيق السامعي:
تابع معرفتها القراءة والكتابة
إذا مضينا قدماً في تحليل النص القرآني في ذكر ملكة سبأ، وخاصة مسألة الكتاب (الرسالة) سنجد أنها فهمت لغة الرسالة وأبجديتها دون ترجمان.
فاللغات السامية القديمة، وإن اختلفت خطوطها وأبجدياتها، تظل مفهومة لدى مختلف شعوبها القديمة؛ لأن أصولها واحدة.
ومن خلال تعلم قراءة النقوش اليوم نجد أن من يفهم خط المسند يفهم الخط الآرامي، ويفهم العبري، ويفهم الكنعاني، ويفهم الفينيقي…إلخ.
ومن خلال ما نسمعه نحن كيمنيين من العبرية مثلاً، أو من السريانية، نفهمه إلى حد كبير، خاصة المركز في الألفاظ ومن عنده قليل من الاطلاع والمعرفة بتلك اللغة.
لذلك لم يستشكل عليها قراءة الكتاب. يقول كثير من العلماء: “إن أصل اللغات السامية كلها يعود إلى أصل واحد”، وبعضهم يقول: “إن هناك لغة أم لكل هذه اللغات وهي العربية القديمة الأم قبل اللغات السامية”( )، ولا يقصدون عربية اليوم؛ فعربية اليوم متطورة ومنتخبة من اللغات السامية ذاتها، والأصل اليمني أكثر اللغات تأثيراً فيها( )، وإن كان كثير من الباحثين يقولون إن الآرامية هي الأكثر تأثيراً في العربية إلا أن هذا الرأي لا يستقيم لسببين رئيسين، هما:
الأول: أن حروف أبجديتها (أصواتها) اثنان وعشرون حرفاً فقط، بينما العربية ثمانية وعشرون حرفاً (صوتاَ)، والمسند اليمني تسعة وعشرون حرفا (صوتاً) لو اعتبرنا حرف (سامخ) حرفاً مستقلاً، وتخلو العبرية من الضاد والغين والذال والفاء والسين والطاء، وهي موجودة في اليمنية والعربية، ولذلك هذه الحروف لم ترد في رسالة سليمان لملكة سبأ، وقد يكون كتبها بلغة المسند اليمني المفهوم للملكة، لذلك ورد حرف السين في الرسالة، والسين ليس من أحرف العبرية على افتراض أنه يتحدث العبرية، لكن الذي أوتي منطق الطيور والحشرات لن يعجزه حرف المسند ولغته.
والثاني: أن المحيط الجغرافي؛ السبئي (اليمني عموما) أقرب مكاناً وجغرافية وأكثر احتكاكاً وتداخلاً بالمحيط العربي، فضلاً عن أن السبئي/اليمني منبت العرب الأول، والسبئي تسعة وعشرون حرفاً على رأسها الضاد التي تعرف بها العربية. بينما الآرامية أبعد مكاناً أقل احتكاكاً، وبسبب محاربة اليهود للآرامية والاعتماد على العبرية عندهم حاصروا من تمدد الآرامية.
وبالعودة إلى اللغة العبرية نجد مشتركات لفظية كثيرة بينها وبين اليمنية، بلهجاتها المختلفة، صحيح أن حروف العبرية لا تتعدى ثمانية عشر حرفاً، واليمنية ثمانية وعشرون حرفاً/صوتاً لكن المشتركات اللفظية بينها كثيرة.
من هنا كانت معرفة ملكة سبأ بلغة الرسالة سواء كتبت بالآرامية القديمة أو بالعبرية المنبثقة عن الآرامية.
“فقد لاحظ المستشرقون أن العبرية تشترك مع السبئية في اصطلاحات كثيرة غير معروفة في اللغة العربية”( )، وهذا الأمر أيضاً يعزز مفهوم مَلَكَة العلم لدى ملِكة سبأ.
فمن خلال اختبار تجربة ملكة سبأ لنبي الله سليمان بإرسال الهدية إليه لمعرفة إن كان ملكاً أم نبياً يتضح أنها كانت تعلم بأمر النبوة وعلم الأديان، لذلك أرادت التفرقة بين الأمرين، وكذلك رجاحة عقلها في غير تهور ولا استعراض القوة التي تورد المهالك أحياناً قبل تبين إمكانيات الخصم، فلا شك أن وصلتها قصص رسالات وأنبياء سابقين، سواء في سبأ وممالك اليمن الأخرى، أو حتى في بلدان ودول مجاورة، كقصة موسى مع الفراعنة مثلاً والتي ظلت متداولة بالتواتر وعلم الأديان الأخرى حتى اليوم، أو من خلال التجار اليهود الذين يتاجرون بين بلاد اليمن والشام ومصر، أو غيرها من القصص، وما تطلع السبئيين أو بقية اليمنيين نحو عبادة الأجرام والكواكب السماوية إلا بحثاً عن الإله في السماء كبقايا رسالات سماوية سابقة، وبالتالي فهي تفرق بين النبي والملك من سياق ومعلومات تلك الرسالة التي بعث بها سليمان لها عبر الهدهد، وكذلك من خلال معرفة أساليب الملوك في الغزو ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ..وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾( )، ولئن كشفت في تلك الأثناء عن لازمة وصفة من لوازم وصفات الملوك وهي الغزو والتدمير والسيطرة وإذلال وقهر الشعوب المَغْزِيَّة، فهي بالتالي تستنطق الشق الآخر من المعرفة والصفة إن كانت لنبي أو رسول من خلال ألفاظ الرسالة (البسملة، أسماء الإله، مسلمين)، ولذلك منذ الوهلة الأولى تبينت فحوى الرسالة ومغزاها، وأطلقت عليها وصفاً لطيفاً وبديعاً، وكانت عندها محط تبجيل واحترام بقولها: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾( )، فكيف عرفت أن الكتاب كريم؟!
عرفته – ولا شك- من خلال ألفاظه المحترمة المفتتحة بأسماء الله وصفاته (الله، الرحمن، والرحيم)، وهي ألفاظ ومصطلحات جديدة لم تعرفها من قبل، لكن لها وقع خاص من خلال المفردات (رحمن، رحيم) مقرونة بـ(الله) المعروف لديهم بـ(إل أو آلاه)، ولذلك لما ذهبت إليه كان الحوار عقائدياً بينهما، وكانت النتيجة ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( )، فمقابل الرحمة هنا كان في اللغة اليمنية “شفقة” والفاعل “شفيق” على وزن رحيم، وربما كان اللفظ هذا مستعملاً من قبل وبقي له أثر في المرحلة المتأخرة من الدولة السبئية.
حتى وهي تسلم وتتبع عقيدة التوحيد لم تقل “أسلمت لسليمان” بحال التابع والمتبوع والخضوع والانقياد والذل، بل كان الأمر بالمعية والتساوي والندية “أسلمت مع سليمان لله رب العالمين”، ولم تقل ما قاله فرعون وقومه لموسى: “لنؤمنن لك” في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾( )، وهناك فرق شاسع بين الأمرين؛ فالأول فيه ندية ومصاحبة بالإقناع، وعدم الخنوع والذل والتبعية كما في الثاني.
….يتبع