توفيق السامعي:
عوامل القوة والضعف بين علي ومعاوية
بتحليل مضمون الأحداث والصراع الذي جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- والظروف المحيطة بتلك المرحلة نستطيع أن نجمل عدة نقاط هامة حولت مجرى الصراع بين الطرفين لصالح معاوية، وسنفصل في هذه النقاط نقطة نقطة.
أولاً: حالة الشرعية بين الطرفين:
من خلال ما مر بنا أعلاه فإن خلافة علي بن أبي طالب لم تحصل على الشرعية الكاملة التي منحت من قبله لأبي بكر وعمر وعثمان –رضي الله عن الجميع-، كان الأصل فيها أن لا يتخلف أحد من أهل المدينة، وخاصة كبار الصحابة من مهاجرين وأنصار، باعتبارهم أهل الحل والعقد، كما في حالة الخلفاء السابقين، بينما لم يبايعه كثير من كبار الصحابة، وقد ذكرنا ذلك في الفرق المختلفة أعلاه. ففي رواية الواقدي “تربص سبعة نفر لم يبايعوا علياً، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي مسلمة، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد”، وكذلك في روايات أخرى حسان بن ثابت وعبدالله بن سلام وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأسامة بن زيد وأبو أيوب الأنصاري والنعمان بن بشير، وغيرهم كثير، وهذا الفريق فريق الاعتزال وليس الفريق المعارض، ورغم أنه كذلك إلا أنه يجعل كثيراً من الناس يحجمون عن تأييد علي، أو يتكاسلون عن نصرته على الأقل، ورأيهم وتأثيرهم في المجتمع الإسلامي، ناهيك عن الزبير بن العوام وابنه عبدالله وطلحة بن عبيدالله وعائشة –رضي الله عنهم- رغم أن الزبير وطلحة في روايات أخرى تقول مرة إنهما بايعا علياً منذ البداية، ما خلا رواية واحدة تقول: إن الزبير وطلحة بايعا علياً مكرهين، وكل واحد منهما قال: بايعت واللج على عنقي.( الطبري: ج4/456). فمن هذا الفريق اثنان من أهل الوصية والشورى والبيعة العمرية بعده وهما سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر.
وقد عاتبت عائشة -رضي الله عنها- عبدالله بن عمر لِمَ لَمْ يثنها عن الخروج إلى البصرة معارضة لعلي فقالت له: “يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا مَنَعَك أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي؟! قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا غَلَبَ عَلَيْك – يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- فَقَالَتْ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ نَهَيْتَنِي مَا خَرَجْت”( البداية والنهاية: ج6/ صـ212، والطبري: صـ802).
هنا سنجد أن ذلك الفريق الذي يدير الأحداث من تحت الطاولة يُصَعّد ويصل إلى مرحلة الذروة الثانية في تأليب الحرب بين الأطراف، ولكن هذه المرة بين علي من جهة والزبير وطلحة وعائشة من جهة أخرى، والزبير وطلحة كما نعلم جميعاً هما أيضاً من أهل الشورى والوصية العمرية ضمن السبعة المختارين من عمر لخلافته.
حينما تحاور علي والقعقاع من جهة، والزبير وطلحة وعائشة من جهة أخرى، واتفق الطرفان على التبرؤ من قتلة عثمان والمطالبة بدمه، سُقِط في أيدي قتلة عثمان، وأدركوا أنهم هالكون بين اتفاق المسلمين، وعلى إثر استشعار ذلك الخطر واصلوا كيدهم، واتفقوا على تسعير الحرب بين الطرفين دون أن يشعر الفريقان، لتفويت الفرصة على الاتفاق وإفساده. “فاجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدة ممن سار إلى عثمان، ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء [عبدالله بن سبأ]، وخالد بن ملجم، وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه، وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم! [يقصد كيف اذا اتحد الطرفان على القتلة]..
أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد [يقصد رأي فريق عائشة وفريق علي]، وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا، فهلموا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون”(تاريخ الطبري: ج4/493).
دارت الكثير من المناقشات بين هؤلاء الخوارج أصحاب الفتنة، وخلصوا إلى رأي عبدالله بن سبأ الذي يقول فيه: “ياقوم، إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون”( الطبري: ج4/494. القصة طويلة والروايات كثر أحببنا أن نورد الخلاصة فيها، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى المصدر).
إتفق قتلة عثمان ليلاً على أن يندمجوا في صف الفريقين المتلاقين في الصباح، حتى إذا كان الصباح بعد التقاء علي وعائشة تناهشوا فيما بينهم وأسعروا القتال، فكانت عائشة والزبير وطلحة يظنون أن علياً خدعهم ويدعون عليه، وكان علي في خيمته ولم يسمع إلا جلبة الحرب فظن أن الزبير وعائشة وطلحة تراجعوا عن الاتفاق وخدعوه، فكان الناس يقتتلون ولا يدرون على ماذا، حتى إن الخوارج (قتلة عثمان) قاموا برشق هودج عائشة بالسهام، قال الرواة فصار هودجها كأنه قنفد بكثرة الشوك، فأمر علي محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يحميا هودج أخته عائشة وينزله من الجمل، ولما كثر القتل بين الطرفين صاح علي، وقيل القعقاع: إعقروا الجمل حتى يسقط لكي يستطيعوا تخليص عائشة من الهودج والقتل ويسقط وكأنه راية المعركة لفريق عائشة والزبير وطلحة، إذا سقط هدأت المعركة، وأمر القعقاع بن عمرو التميمي أن يضرب الجمل ويحمي عائشة، حتى سقط الجمل، فحمل هودج عائشة بعيداً عن الحرب، وما زالت عائشة بعد ذلك تعرف صنيعاً لعلي في هذا الموقف.
هذا الموقف والحرب نحت أيضاً من قوة علي وأضعف صفه، فكثير من المسلمين ظنوا أن علياً حارب أم المؤمنين زوج رسول الله، خاصة ممن سمعوا بالحرب ولم يشهدوها، وتم استغلالها أيضاً ضده وللتأليب عليه، وسنجد بعد هذه الحرب ظهور الخوارج على علي، وكان عليه أن يقاتل في جبهات متعددة، ولكن حتى هذه اللحظة ولم يحصل أي صدام أو مواجهات بين علي ومعاوية بعد، بينما معاوية كان يبني ذاته وجيشه، ويقوي صفه وإمارته وعاصمة ملكه فيما بعد.
لم يكن لمعاوية أية شرعية لولاية عامة حتى هذا الموقف، فقد كانت شرعيته محدودة لولاية فرعية وهي ولاية الشام التي ولاه إياها عمر بن الخطاب وأقره عليها عثمان -رضي الله عنهم جميعاً- ولم يكن معاوية يرفع أية مطالب أخرى حتى هذه اللحظة سوى الاقتصاص من قتلة عثمان.
لكن هذه الشرعية لمعاوية، رغم محدوديتها، إلا أنها ظلت تتمدد وتكبر وتتسع شيئاً فشيئاً لتأليف الناس من حوله، وإنقاص من شرعية علي الذي ينفر الناس عنه وتتمدد صراعاته وتتعدد جبهاته، وتتآكل قواته وتتناقص.
….يتبع