توفيق السامعي :
بعد النفاذ من باب عمر المكسور، والمرور على جثة عثمان، ها هم مشعلو الفتنة وأياديها الخفية يستخدمون الخليفة الرابع علي بن أبي طالب استخداماً غير مباشر؛ فتنفخ في فكرٍ دخيل يرفع علياً حد النبوة والتقديس ويشق الأمة ويمزقها إرباً، بدأ ذلك بالإيعاز بما يسمى الوصية، والأحقية بالولاية، واستخدام فكرة القرابة من الرسول، مع أن عثمان نفسه تزوج ابنتين من بنات النبي –صلى الله عليه وسلم- إن كان علي تزوج واحدة فقط، ولم يكن المقصود حرصهم على علي ولا على النبي وقرابته، بل استخدام ما يدغدغ به عقول بعض المسلمين لتقبل الفكرة من أساسها، ولافتة للتحرك من خلالها وشق وحدة المسلمين، والإبقاء على الأزمة متقدة ودوارة في صفوفهم، وقد علمنا كيف كانت البداية بالعرض الأول.
من زوَّر الرسائل باسم عثمان فقد زوَّر أيضاً رسائل باسم علي في نفس الحادثة، حتى أن المتمردين قالوا كلمة في علي –رضي الله عنه- لو فقهها الباحثون لعلموا أن وراء الأكمة ما وراءها، وذلك أنهم لما انثنوا راجعين إلى عثمان ليحاصروه بعد انصرافهم من المدينة، توجهوا مباشرة إلى علي، وقالوا له:
ألم تر إلى عدو الله [يقصدون عثمان]؟!
إنه كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحل دمه. قم معنا إليه. فقال: والله لا أقوم معكم؛ إلى أن قالوا: فلم كتبتَ إلينا؟ فقال: والله ما كتبت لكم كتاباً قط! قال فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو ألهذا تغضبون؟!”، بمعنى: هل تقاتلون من أجل علي هذا وأنتم ترون منه ما تنكرون من الخديعة والخذلان وعدم التعويل عليه؟!
هنا تتبين الخطوط اللاعبة من تحت الطاولة؛ يزوّرون رسائل باسم عثمان وعلي للإيقاع بين الجميع، وإذكاء نار الفتنة في المدينة، ولا يريدون لها أن تنطفئ؛ إذ إنهم سارعوا إلى حصار عثمان بعد ذلك وقتله، ومبايعة علي حتى تكتمل اللعبة.
من هنا بدأت أرضية علي بالاضطراب؛ فقد ظهر موقفه للناس على أنه واقف مع الانقلاب على عثمان، وأن خلافته وإمارته نتيجة لهذا الانقلاب، فبايعه فريق من الصحابة وناصره، ورفض بيعته فريق آخر واعتزله.
في هذه الأثناء، ومع هذه الأوضاع، ظهرت المعارضة الداخلية لعلي من بعض الصحابة، معاضة رفض بيعته حتى وإن كان اعتزالاً لها إلا أنها إيحاء للكثير من المسلمين في حينه أن شرعيته بدت ناقصة بعدم اكتمال بيعته من قبل كبار الصحابة المتبقين في المدينة والذين اعتُبروا أهل الحل والعقد حينها بهم تنعقد البيعة وتكتمل الشرعية والإمارة (الإجماع)، وهو ما لم يحصل عليه علي -رضي الله عنه- كما حصل من قبل عثمان وعمر وأبو بكر –رضي الله عن الجميع، وبسبب هذه النظرة والاستنتاج لم يكن الناس متحمسين مع علي كثيراً لأنه لم ينل إجماع أهل المدينة.
هذه كانت ثغرة كبيرة وليست بالهينة في خلافة علي، على إثرها بدأت تتمايز الصفوف بين المسلمين، وتنقسم إلى فرق شتى:
1- فرقة علي والمؤيدين له من زعماء الانقلاب كالأشتر النخعي من الكوفة وحرقوص بن زهير وبشر التجيبي والسكوني وغيرهم، وكذلك من قومه وأسرته ومن عموم المسلمين، وعلى رأسهم عمار بن ياسر وعبدالله بن عباس وقيس بن سعد بن عبادة وربيبه محمد بن أبي بكر، وآخرون، ومن نساء النبي أم سلمة فقط.
2- فرقة رفضت بيعته معارضة له متفرقة عنه داعية إلى نفسها تحت لافتة المطالبة بدم عثمان، وعلى رأسهم الزبير بن العوام وابنه عبدالله بن الزبير وطلحة بن عبيد الله، وهؤلاء استخدموا رمزية أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وأقنعوها على الخروج معهم إلى البصرة، ولم تكن داعية للحرب على علي من الأساس، وفي القصة تفاصيل كثيرة، من ذلك رد الزبير بن العوام وطلحة عن سؤال سعيد بن العاص: “لمن سيكون هذا الأمر إن هم ظفروا بالأمر وقتلة عثمان؟، فقالا: لأحدنا، أينا اختاره الناس. قال بل اجعلوه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها في أبنائهم؟!”( تاريخ الطبري: صـ801) ، فانفض عنهم ومعه آخرون؛ لأنه علم أنهم يطلبون الخلافة لأنفسهم بحجة المطالبة بدم عثمان، كما فعل معاوية بالضبط. هذه الفرقة في الأساس تنحت من قوة علي وعلى حساب موقفه وشرعيته، وتفت في عضد جيش علي وتصب في صالح معاوية، مع أنها لم تخرج لقتال علي في الأساس بل للمطالبة بدم عثمان، وما حادثة الحرب التي دارت بين الطرفين في موقعة الجمل إلا نتيجة لفتنة الأيادي الخفية التي تحرك الأحداث، وظاهرها فرقة السبئية، بينما باطنها قوى فارسية رومانية يهودية على السواء. لذلك من يراجع نشوب تلك الحرب خطوة خطوة ستتضح له الكثير من الأمور كيف صنعت تلك الأيادي الخفية تلك الحرب.
3- فرقة معتزلة الأحداث والبيعة وعلى رأسها سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن سلام وعبدالله بن عمر وأسامة بن زيد، وآخرون، وهؤلاء لا مطالب لهم البتة، ولم يقفوا مع أحد، بل زهداً في الفتنة.
4- أما الفرقة الرابعة فهي فرقة معاوية وعمرو بن العاص وبني أمية بشكل عام، وهذه تطالب بدم عثمان وترى نفسها الأحقية بالحكم وبدم عثمان وبميراثه من الخلافة؛ كون المقتول كان منهم، وهو رأس الدولة، وسيرثونه من بعده.
وبدا من خلال هذه الفرقة أنها خلاف أسري قرشي لزعامة المسلمين بين الأمويين والهاشميين، ودخلت هنا الصراعات الأسرية القرشية على حساب بقية العرب والمسلمين، لكن فيما بعد سنجد أن عبدالله بن عباس، بعد مقتل علي –رضي الله عنه- سيبايع معاوية، وسيحث الحسن على التنازل لمعاوية ويكون عاملاً مؤثراً في الصلح بينهما.
ونجد أن ابن عباس، بعد مبايعته معاوية، يثني على معاوية ويقول فيه: “ما رأيت رجلًا أخلقَ بالملك من معاوية”!
وكذلك عبدالله بن جعفر يثني ثناءً عظيماً على يزيد بن معاوية، وتوفي معاوية وهو يوصي يزيد بعبد الله بن جعفر هذا.
….. يتبع
الخبر السابق
أخبار ذات صلة
انقر للتعليق
جار التحميل....