27.1 C
الجمهورية اليمنية
7:29 مساءً - 21 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

مَحطة الفَاشلين الأخِيرة

بلال الطيب :

لم يَكن مَقدم «الهادي» يحيى بن الحسين إلى صعدة، بِطلب من أعيانها، إلا بداية لتوالي قدوم الطامحين من أبناء عمومته، وغيرهم، لمُنافسة أحفاده في الحكم والإمامة، في البدء قدِم القاسم العياني، ثم القاسم الزيدي، ثم أبو هاشم الحسني، ثم أبو الفتح الديلمي، تلقف غالبية أبناء القبائل الشمالية دعواتهم، وضحوا في سبيل نُصرتهم بالمال والرجال.

ومن «صيد البرار» بخارف، مروراً بمنطقة «المنوى» في أرحب، وصولاً إلى قاع «الديلمي» في ذمار، وحصن «هران» في عنس، ثمة شواهد مُتناثرة، تحكي بأسى تفاصيل تلك المأساة، ومن يدري؛ ربما يكون بعض هؤلاء القادمين ـ أو جُلهم ـ قد ادعوا نسبهم «العلوي» ذاك؛ طمعاً بالإمامة، واستغلالاً لسذاجة أنصارها اليمنيين، والكهنوت ـ كما قيل ـ يبدأ عندما يلتقي أكبر مُحتال بأكبر مُغفل.

وبازدياد توافد أولئك الطامحين، ازداد التنافس فيما بينهم، لترتفع وتيرته أكثر فأكثر؛ خاصة عندما هَجر أبناء القبائل الشمالية مَزارعهم، وحملوا أسلحتهم لمناصرة هذا القادم أو ذاك، جَاعلين من جُغرافيتهم المُستلبة أرضاً مُلتهبة بالدم والصراعات، لا تتوقف على ظهرها معركة إلا لتبدأ أخرى أشد ضراوة.

اللافت في الأمر، أنَّ قائمة أولئك الأدعياء حوت شخصا مجهولاً، لم يذكر المؤرخون له اسماً، أعلن مطلع العام «418هـ / 1027م» من «ناعط ـ ريدة» نفسه إماماً، وتلقب بـ «المعيد لدين الله»، تَوجه صوب مأرب، أنفذ منها كُتبه إلى النَواحي، واستهلها بهذه المُقدمة: «من عبدالله، الإمام المعيد لدين الله، الداعي إلى طاعة الله، الدافع لأعداء الله».

أيده في البدء عبد المؤمن بن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، وأيدته أيضاً بعض قبائل «همدان» بزعامة شيخها يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك، دخل صنعاء بـ «10,000» مقاتل «رمضان 418هـ»، وخطب له «ابن التقوى» قاضي المدينة بالإمامة، رغم أنَّ الأخير كان سُني المذهب.

غادر «الناعطي» صنعاء في العام التالي مُكرهاً، توجه جنوباً، ليتخلى «الهمدانيون» عنه فور عودته من «مخلاف جعفر»، انضموا لحضيرة «الدولة النجاحية»، وكذلك فعلت قبائل «عنس»، حاصره الأخيرون في حصن «هران»، وأجبروا ـ مع نهاية العام «421هـ» ـ روحه على المغادرة.

بعد مقتل «الناعطي» بخمسة أعوام، قدِم من الحجاز «أبو هاشم» الحسن بن عبد الرحمن، وقيل من الشام، أعلن نفسه إماماً، وإليه ينسب الأشراف «الحمزات»، دخل صنعاء مسنوداً بشيخ «خولان» المنصور بن أبي الفتوح، ليغادرها بعد ثلاثة أعوام مُكرهاً، وذلك بعد أن ناصبته «همدان» العداء.

دخل «الهمدانيون» صنعاء بقيادة زعيمهم «ابن أبي حاشد»، واستدعوا خلال العام «431هـ» جعفر بن قاسم العياني من «عيان» مرتين، اختلفوا، ثم انقسموا بينه وبين زعيمهم، ليستدعي الأخير بعد انتصاره الإمام الآخر، دخل برفقته صنعاء، وماهي إلا ثمانية أيام حتى غادرها «أبو هاشم» إلى ريدة، جاعلاً عليها والياً من قبله.

اختلف المؤرخون حول مكان وتاريخ وفاة «أبو هاشم»، والراجح أنه توفي في ريدة «433هـ»، وهذا التضارب يَجعلنا نجزم أنه هو نفسه «المعيد ـ الناعطي»، خاصة وأنَّ ثمة تشابه كبير في سيرتهما، وهذا صاحب «الحدائق الوردية» حدد عام قيام «أبي هاشم» بـ «418هـ»؛ بل وأرود نص دعوته التي أرسلها في ذات العام من «ناعط» إلى صعدة.

في تلك الأثناء، أعلن أبو الفتح الناصر بن الحسن الديلمي من «طبرستان» نفسه إماماً «430هـ»، وحين فشلت دعوته هناك، يمم خطاه صوب اليمن، محطة الفاشلين الأخيرة، تماماً كما فعل من قبل «الهادي» يحيى بن الحسين.

استقبلت القبائل الشمالية ـ كما هي عادتها ـ القادم الجديد، جدد فيهم دعوته «شوال 437هـ»، وخاطبهم قائلاً: «أن الله أرسل الأنبياء والرسل، وجعل منهم الأئمة والهداة، الذين قام بهم الصلاح، ودام بكونهم الفلاح.. وكان مما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم، استحفاظ بنيه، فأقامهم مقامه، واسترعاه إياهم دعوته».

تلقب الإمام الجديد بـ «الناصر»، وابتدأ عهده بِمُحاربة مُعارضيه، نَهب صعدة، وخرَّب دورها، واجتاح قبيلة «خولان بن عامر»، وقتل عدداً كبيراً من سكانها، واختط «ظفار ـ ذيبين»، وأقام بها مدة، ثم واصل تقدمه جنوباً، مسنوداً بقبائل «همدان»، وقال فيهم وفي نفسه:
ألا يا لهمدان بن زيد تعاونوا
على نصرنا فالدين سرب مضيَّعُ
ونادوا بكيلاً ثم وداعة التي
لها المَشهد المشهور ساعة تجمع
أنا الناصر المنصور والملك الذي
تراه طوال الدهر لا يتضعضع

بسرعة خاطفة، استولى «الديلمي» على معظم مناطق «اليمن الأعلى»، وكان جعفر العياني من أبرز أعاونه، نعته بـ «أمير الأمراء»، ومنحه ربع الخراج، وجعله والياً على صنعاء، ثم ما لبثا أن اختلفا، تفرقت القبائل بينهما، ودارت حروب وحروب، وانتقاماً من «الهمدانيين» الذين ساندوا «العياني»، خرَّب «الديلمي» بعض دورهم، لينتهي ذلك الصراع بميلاد «الدولة الصليحية» من جبال حراز «جماد الآخر 439هـ / ديسمبر 1047م»، على يد علي بن محمد الصليحي.

توفي يحيى بن أبي حاشد مطلع العام «440هـ»، فأقام «الهمدانيون» ولده حاشد مكانه، ليلقى الأخير بعد أربع سنوات مصرعه على يد «الصليحيين»، في وادي «صوف ـ بني مطر»، ولقي «1,000» من مقاتليه مصرعهم معه، وهي معركة فاصلة يضرب بها المثل، ويقال: «قتلة صوف»، دخل بعدها «الصليحي» صنعاء، ودانت له معظم مناطق «اليمن الأعلى».

ما إن علم «الديلمي» بانتصارات «الصليحيين» المُتسارعة، حتى راعه المشهد، خاف على نفسه، وظل متنقلاً من بلد إلى آخر، لتكون نهايته ـ هو الآخر ـ على أيديهم، وذلك في «نجد الحاج ـ رداع»، وقتل معه في معركته الأخيرة نيف و«70» رجلاً، دفنوا جميعاً في مكان واحد، لينقل ولده محمد رفاته ـ فيما بعد ـ إلى منطقة «حاجب ردمان» في «ميفعة عنس» شرقي مدينة ذمار، وهو المكان الذي عُرف من يومها بقاع «الديلمي».

اللافت في الأمر، أنَّ غالبية المؤرخين اختلفوا أيضاً حول نسب «الديلمي» هذا، وتاريخ وصوله، وتاريخ مصرعه، والراجح أن مَقتله كان ما بين عامي «448هـ» و«449هـ»، وهي الفترة التي توجه بها علي الصليحي إلى يريم ورداع.

وفي الجهة الأخرى، قوى جعفر العياني تحالفه مع «الهمدانيين»، وسعى مسنوداً بـ «30,000» منهم لإيقاف التمدد الصليحي مُنذ لحظاته الأولى، إلا أنهم مُنيوا بانتكاسات مُتلاحقة، في البدء هُزموا في معركة «المحارم ـ الحيمة»، وأخذ علي الصليحي ولده عبدالله ـ قائدهم في تلك المعركة ـ أسيراً «443هـ».

وفي ذات العام أيضاً، سار جعفر العياني بأنصاره إلى «صيد البرار»، وهي منطقة بين ريدة وخارف، وهناك دارت معركة كبرى، هُزم فيها، ودخل كابنه مذلة الأسر، بعد أن خسر أكثر من «300» من أصحابه، أفرج علي الصليحي عن ولده وعنه، بعد أن تعهد بـ «أن لا ينصب له حرباً، ولا يقاتل له حزباً».

تنكر القاسم بن جعفر العياني الشهير بـ «الشَريف الفَاضل» لعهد أبيه، وحاول بمعاونة «الهمدانيين» هدم منازل «الصليحيين» وحصونهم، في صنعاء وما جاورها «447هـ / 1055م»، مُستغلاً ذهاب والده إلى الحجاز، وذهاب علي الصليحي إلى زبيد، وإليه أرسل الأخير مُهدداً:
هذا اليقين وخيل الحق مُقبلة
تحث في نقعها جرى السراحين
هناك لا تنفع الرسي ندامته
وعض إبهامه في الوقت والحين
فيال همدان لا يغرركم طمعٌ
إنَّ الغرور حبالات الشياطين

فرد «الشَريف الفَاضل» عليه:
لا بد من وقعة مني تظل بها
اشلاؤكم فرقاً بين السراجين
هناك تعرف للرسي صولته
إذا رأيت قريض الموت في الحين
وإن همدان لا تغضي على قذأ
ولا تلاقيه إلا في الميادين

ما إن سمع «الهمدانيون» بعودة علي الصليحي من تهامة، حتى تخلى أغلبهم عن مناصرة «الشَريف الفَاضل»، هُزم الأخير في «قراتيل ـ حاز»، ومنها توجه شمالاً إلى حوث، تحصن هو و«2,000» من أصحابه في حصن «الهرابة» الذي سبق وأن ابتناه، وهناك تمت محاصرته لـ «70» يوماً.

سلَّم «الشَريف الفَاضل» نفسه «10 رجب 448هـ / 23 أكتوبر 1055م»، فعفا علي الصليحي عنه وعن أنصاره، وصادر أمواله وأسلحته، وأخذه معه إلى صنعاء، أكرمه وأحسن إليه، وبعد مضي عامين قدم والده جعفر من الحجاز، ليموت الأخير أثناء سعيه في تخليصه «ذي الحجة 450هـ»، عن «85» عاماً، استأذن بعد ذلك من مُحتجزه بالذهاب إلى الحجاز، فكان له ما أراد.

لم يأتِ العام «455هـ» إلا وقد حقق علي الصليحي انتصارات لافتة على مُعارضيه، وكوَّن دولة إسماعيلية شملت اليمن كله، وبذلك توحدت للمرة الثانية في تاريخها، بعد توحدها الأول في العصر «الحميري» الثالث، ويرجع ذلك إلى أن عماد جيشه كان من المؤمنين بدعوته، لا من المرتزقة أو القبائل المُتقلبة الولاء، وحين عمَّ خبر اغتياله ـ على يد «النجاحيين» ـ الأرجاء «11 ذو القعدة 459هـ / 22 أكتوبر 1067م»، وهو في طريقه إلى الحج، تجددت الفوضى، وتصدى ولده «المُكرم» أحمد بحزم لجميع التمردات القائمة.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد