كتب/ بلال الطيب:
بَعيدًا عن الشمول الذي تعمل له، وتسعى إليه الثورات والانتفاضات المُنظّمة، ورغم الجهل المُدقع، والعُزلة المُفرطة، اللذين فُرضا على الشعب اليمني، بدأ فكر الثورة والتمرد يتسلل إلى العوام، وقامت بالفعل حركات فلاحية مُسلحة ضد حكم الإمامة المُظلم، وهي على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر، صحيح أنَّ مُعظمها – أي تلك الحركات – لم تكن ترمي إلى إحداث تغيير جذري في النظام، إلا أنَّها – وهو الأهم – هزّت عرش الطغاة، ومهّدت لزوالهم.
انتفاضة حُبيش مايو 1919م :
حُبيش.. قِصة صُمود، ومَكمنُ رفض، وفَاتحةُ مجد، وأصلُ تحدِ، تَوزعت على مُرتفعاتها الشهباء بُطولات أجيال وحِقب، وتهاوت في أوديتها الخضراء مَراتب ورُتب، وتَهادت من سُفوحها الخضراء عَبرات وعِبر؛ ولهذه الاعتبارات وغيرها وقع اختيارها لمُواجهة التوغل الإمامي المُتوكلي في لحظاته الأولى، فأدّت دورها المرسوم بعناية، ولولا الخذلان الذي اعترى انتفاضتها المائزة تلك، والخيانة التي لازمت نهايتها، لكانت أوقفت ذلك التوغل، وطمست مَلامح أربعة عُقود من الاعتساف والظلم.
انتفاضة جبل صبر سبتمبر 1919م
كان جبل صبر ولا يزال أبرز مَعاقل الكرامة، إنْ لم يكن أكبرها، وآخرها، ولأبنائه تاريخٌ مُشرّفٌ في مُقاومة الإمامة، تَصدوا في مَراحل مُتفرقة لتوغلاتها الوحشية، وحاربوها ببسالة، وقاوموها حتى آخر طلقة، وما تزال نفوسهم الجبارة القاهرة للمستحيل تأبى الانكسار والضيم، وما تزال عزيمتهم الوثابة الرافضة للكهنوت والظلم تستحضر بطولات الأمس، لتبقى على قيد ثورة.
انتفاضة العاقبة نوفمبر 1919م
العاقبة إحدى عُزل ناحية شلف التابعة لقضاء العدين، واقعة في أقاصي ذلك القضاء من الجهة الشمالية، ومُطلة على جبل راس، قام ثوارها بقتل عددٍ من الجند الإمامي المحططين هناك؛ والسبب تمادي هؤلاء العسكر في الإذلال، ومطالبتهم لمبالغ باهظة نظير حلولهم في تلك البلاد، واستخلاصهم لزكواتها، والأسوأ من ذلك تـماديهم في نهب مواشيها وأغنامها.
انتفاضة جُباح بداية عام 1920م
على ضِفاف وادي نَخلة عاش الثائر الاستثنائي علي عبدالله جباح، الذي حمل اسم منطقته (جُباَح)، وهي عُزلة تابعة لقضاء العدين، وصارت مُؤخرًا تابعة لمديرية الفرع. وقَف في وجهِ الطُغيان، رافضًا حَياة الذُل والهَوان، لم يَستسلم كأقرانه، أو يخضع أو يلين، مَضى بحسهِ المُرهف، ووطنيته الفَذة، ونزعته الوجدانية المُتأصلة فيه، مضى مُدافعًا عن الأرض، مُنتصرًا للكرامة، وحين أرسل إليه أمير لواء تعز علي الوزير بحشدٍ من العساكر لغرض تَحصيل الجبايات المـرُوضة عليه، وذلك بداية عام 1920م، طردهم شرَّ طردة، مُؤكدًا وهو صَاحب الحق عدم إذعانه للإماميين المُتفيدين، حتى ولو كان الثمن حَياته.
انتفاضة صنمات مايو 1920م
ما حَدث في صَنِمَات، وهي إحدى عُزل ناحية المِسراخ التابعة لجبل صبر الأشم، من انتفاضة، مبعثها تصرفات رعناء قام بها حوالي 50 فردًا من عساكر الإمام يحيى، أرسلهم عامل صبر حسين بن محمد جبالة لجمع واجبات الجبل، إلا أنَّ أولئك العسكر خرجوا عن السياق المعهود للمأموريات، إلى سلوكيات أكثر شذوذًا، نفد عندها الصبر، وتوقفت الطاعة، وثارت الكرامة.
انتفاضة المقاطرة 1919م – 1921م
قاومت المقاطرة الزحف الإمامي المُتوكلي على تعز في لحظاته الأولى، هذا ما تفرَّد المُؤرخ المقطري سلطان ناجي بذكره، حيث قال: «ثم اتجهت جيوشه – يقصد الإمام يحيى – نحو المنطقة السفلى في الحجرية، فوقفت في وجهها قبيلة المقاطرة، وقاومتها مُقاومة مُنقطعة النظير، وبعد حوالي عامين سقطت المقاطرة، وسقطت قلعتها المنيعة، بعد أنْ ذاعت مُقاومة هذه القبيلة في كل أطراف البلاد».
انتفاضة زبيد 1919م – 1920م
كانت زبيد من أوائل المناطق التهامية سُقوطًا في يد قوات الإمام يحيى حميد الدين 10 يونيو 1919م، وكانت في المُقابل من أوائل المناطق التي ثارت على تلك القوات، وقامت بانتفاضتين مُتتابعتين (المعاصلة، والركب)، وهي الانتفاضتان اللتان باءتا بالفشل، لتدخل بعد ذلك نفق حُكم الإمامة الكهنوتي المُظلم، وتحولت إلى مدينة مُغلقة، استوطنتها الفوضى، وخيّم عليها الخَراب.
انتفاضة ملحان 1919م – 1923م
ضاق أهالي ملحان ذرعًا من تواجد القوات الإمامية، التي تجاوز عددها الـ 1,000 مُقاتل، ومن تفاقم الجبايات، واستمر – تبعًا لذلك – اتصال بعضهم بالأدارسة، ليأتيهم المدد تلو المدد، وفي الوقت الذي كانت مناطق أطرافها مُشتعلة بالمواجهات، زاد التضييق على مشايخ المنطقة أكثر فأكثر، وأجبروا على مضاعفة رهائن الطاعة؛ فتوسعت خريطة الانتفاضة.
انتفاضة بُرع 1920م – 1925م
لم يكد يحول الحول على دخول القوات الإمامية إلى بُرع، حتى تسللت الثورة من سفوح تهامة إلى ذلك الجبل المنيع، وكان لارتباط سكان ذلك الجبل بتهامة – توجهًا ومصيرًا – أثره البالغ في جعل تمردهم هو الأطول، والأعنف.
انتفاضة ريمة 1920م
انتفاضة مَنسية، جَغرفتها جبال ريمة الشاهقة، وحصونها المنيعة، وأوديتها الضيقة، ورسم فصولها أبطالها المسكونون بأوجاعها، التواقون للحظة الخلاص. كانوا – أي أولئك الأبطال – وما يزالون مُكافحين بطبعهم، صَابرين بسجيتهم، مُقاومين بنزعتهم، تصدوا في مطلع عشرينيات القرن الفائت لأعتى قوة إمامية مُتفيدة، مَسلوبة الإحساس، فاقدة الشعور، لم ترَ في ريمة – أو ريمة الأشابط كما هي تسميتها التاريخية – إلا ذلك القضاء المدرار، الذي يُدرّ عليها الكثير من الأموال، وفاتها أنَّ نَار الصبر الخافتة قد تتحول فجأة إلى بُركان، وأنَّ الصبر مهما طال لا بُد أنْ يكون له حدود.
انتفاضة ردفان 1922م
«يا مُكسي العَاري ومُخضر العُود.. نَجي قَائد مِن حَرب لجْعُود»، هكذا توسلت إلى الله تعالى زوجة الشيخ قائد بن راجح الخولاني، بعد أنْ توجه الأخير بمجاميع كثيرة من قبيلته (بكيل) إلى جبال ردفان (الأجعود)، تعزيزًا للقوات الإمامية المُنكسرة هناك، نجا قائد، وابتلعت ردفان مئات الجنود.
انتفاضة البيضاء 1924م
لم يكن سقوط بلاد المشرق (البيضاء وما جاورها من مناطق) بيد القوات الإمامية سَهلًا، ولم يكن مُكوث تلك القوات الغاشمة في تلك المناطق الثائرة سهلًا أيضًا؛ خاصة بعد أنْ كثر تعدي تلك القوات على المواطنين وأملاكهم؛ الأمر الذي جعل عددًا ممن ساندوها وأذعنوا لها يعضون أصابع الندم، ويستعدون للتمرد والثورة، وقد تولى الشيخ علي عبدالرب الحميقاني قيادة غالبية المجاميع القبلية الثائرة، وتوجه بها لمـُحاصرة القوات الإمامية في مدينة البيضاء فبراير 1924م.
انتفاضة العواذل العليا 1924م
لم يستقر لقوات الإمام يحيى في العواذل العليا (الظاهر) وما جاورها من مناطق قرار، ففي مطلع عام 1924م ثار أهل منطقة شرجان على الحامية الإمامية المُتمركزة هناك، وهذه المنطقة تقع شرق مُكيراس، وكانت الحصيلة 33 قتيلًا، هم إجمالي عساكر تلك الحامية.
انتفاضة العواذل السفلى 1925م
تعاضد أبناء قبائل العواذل ودثينة وآل فضل على مُقاومة الزحف الإمامي، وحظوا – هذه المرة – بمساندة الطائرات الإنجليزية التي قامت بأول طلعاتها في التاسع من يوليو 1925م.
انتفاضة الزرانيق 1928م – 1929م
سقطت مدينة بيت الفقيه، وما كان لها أنْ تسقط، لولا الحصار المُطبق الذي استمر لشهور، والتكتيكات العسكرية التي ابتكرها الضابط الردمي، قـائـد تلك الهزِيمة، كما أنَّ الدعاية الإمامية المُكثفة التي عملت على تضخيم السيف أحمد، بإشاعة أنَّ الرصاص لا يخترق جسده، وأنَّ الجن ينقادون له، أثارت الخوف والرهبة في قلوب كثيرين.
انتفاضة مأرب 1931م
رضخ معظم أعيان مأرب للأمر الواقع، وسلموا رهائن الطاعة، وذلك بعد أنْ اتخذ الإمام يحيى سياسة الملاينة لاستقطابهم، فيما رفض – كما أفاد الباحث عبدالعزيز المسعودي – الشيخ علي بن معيلي من قبيلة عبيدة، والشيخان علي بن حسين البحري، وعلي بن ناصر القردعي من قبيلة مُراد، الدخول في حظيرة الدولة الإمامية، وقاوموا توغلها مُتفرقين، ولمدة عامين، وألقت القوات الإمامية في النهاية القبض عليهم، وأطلق عليهم الإمام اسم (الخوارج)، وضاعف عليهم وعلى رعاياهم الزكاة، وأجبرهم على تقديم رهائن الطاعة أسوة بغيرهم.
خاتمة:
لم تكن الـ 14 عامًا الأخيرة من حُكم الإمام الطاغية يحيى حميد الدين هَادئة عليه أو مُستقرة؛ بل تخللتها أحداثٌ عظام، وتحولات حاسمة، وبهزيمة جيشه الحافي أمام القوات السعودية، بدأ العد التنازلي لنهايته مايو 1934م؛ وهي الكارثة التي أدت لارتخاء قبضته، وتَبَدُد هيبته، وضُعف شعبيته، ليبدأ الأحرار (الدرادعة) – كما كان يُسميهم، وهي تسمية خاصة بطائفة من اليهود – يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، وهو ما كان.