بلال الطيب :
الإعلام شاهد الحقيقية الأبرز، وفي واقعنا حيث الإعلام مُسيطر، ثمة أحداث مُتصلة تؤكد ذلك، هو «نصف المعركة»، إن لم يكن كُلها، ومُرجح بارز لكفة النصر، والقوة التي أعنيها هُنا، ليست غلبة هذه الوسيلة أو تلك، بل قوة الحقيقة والإقناع، وخير دليل على ذلك «حصار صنعاء»، حيث صُيرت كبريات وسائل الإعلام كـ «أبواق مستأجرة»، تؤدي دورها الفتاك في التوطئة له، بـ «حرب نفسية» أثرت في القريب قبل البعيد، إلا أن القائمين على الإعلام الجمهوري رغم امكانيتهم البسطة، قاوموا وبشدة، وحافظوا على الرأي العام المحلي، وصنعاء واقعاً على وشك السقوط.
أستخدم الملكيون «الحرب النفسية» بهدف إضعاف روح المقاومة عند الثوار، بدليل إمهال الناطق باسم قواتهم سكان العاصمة «40» ساعة للخروج منها، ما لم سيتعرضون للإبادة، فيما تصريحات أحمد الشامي تُجلجل من لندن، بأن الملكيين سيدخلون صنعاء خلال ثلاثة أيام، وبدون مقاومة، ساعدهم في هذا التماهي وسائل إعلام «غربية» و«عربية» كانت تذيع أخبار الزحف الإمامي، المدعوم أصلاً من دول كبرى، أولاً فأول، بل وتتوقع سقوط النظام الجمهوري في أيام.
شنت تلك الوسائل الإعلامية حملاتها المسعورة تلك، على اعتبار أن ما يحدث في اليمن «انقلاب عسكري»، كان قد تزعمه السلال، وتقوده مجاميع متطرفة مدعومة من «عبد الناصر» و«المنظومة الشيوعية»، وأن هذا «الانقلاب» يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن، فيما كانت التفاصيل الحقيقية للمعارك تنشر بواسطة وكالة أنباء «شنخوا» الصينية، ووكالة الأنباء السورية، و«الشرق الأوسط» المصرية.
والمفارقة الصادمة أن الإعلام العربي والمصري بالذات كان ينشر مثل ذلك، واعتبر البعض أن التوطئة للحصار بدأها هذا «الإعلام الصديق»؛ بدليل أن القوات المصرية لم تكد تغادر صنعاء، إلا وأخبار هجوم الملكيين في الصدارة؛ بما يُشبه الإذن المسبق بأن الطريق أصبحت ممهدة لأي هجوم، وأعلنت صحف واذاعة القاهرة أن صنعاء ستسقط بعد أربعة أيام.
كما أن القائمين على تلك الوسائل لم يكلفوا أنفسهم التواصل مع معنيين في الداخل اليمني، وإن تحقق لهم ذلك مصادفة يحورون ما يصلهم بما يخدم الطرف الآخر، ويحضرني هنا استشهاد لمسئول يمني طلب من قيادي مصري مساعدتهم في توفير مظلات «بارشوت»، لغرض استخدامها في إيصال مواد عسكرية وغذائية إلى «حجة» و«برط» المحاصرتان.
وفي صباح اليوم التالي كانت الصحف المصرية حافلة بمانشتات عن «صنعاء المحاصرة التي لا تصلها المؤن إلا عبر المضلات»؛ وأن «الملكيون يدقون أبوبها»؛ والأغرب أن يتبجح أحد القائمين على تلك الصحف، ويدعى زكريا نبيل، بأن الأمر لا يعنيهم، وأن الجمهورية كانت موجودة في اليمن عندما كانت قواتهم هناك.
والأدهى والأمر من ذلك، تأثر بعض اليمنيين بهذه الدعاية أو تلك، وقد صدرت بيانات من سياسيين مرموقين في بيروت طلبوا من إخوانهم الصامدين في صنعاء تسليمها للملكيين، وأن يأتي تبريرهم: «وذلك نزولاً عند رغبة الشعب الذي يرفض النظام الجمهوري»، وكان تصريح أحمد محمد نعمان لبعض الصحف البيروتية الأقسى، ومما قاله بنبرة يأسه، أو نسب إليه كما أشار أحد المقربين منه: «الملكيون على أبواب صنعاء والشيوعيون يدافعون عنها».
«هنا صنعاء»، برنامج إذاعي ذاع صيته في رمضان «2011»، وبمعية الرائعان عباس الديلمي، وعلي السياني، شنفت مسامعي بمقتطفات من ذاكرتنا اليمنية المسموعة، منذ أكثر من «50» عاماً، حلقت عبر الأثير في عمق الحدث، وعرفت جيداً أن أبرز أدوار إذاعة صنعاء النضالية كانت خلال أيام وليالي الحصار، حين كان الجهاد بالكلمة لا يقل شأناً عن الجهاد بالبندقية، بل ويكاد يضاهيه.
كانت اذاعة صنعاء تقاوم وبشدة، وترد بصوت ساخر على الإشاعات بـ «جمهورية ومن قرح يقرح»؛ أغنية «البصير» الشهيرة، وكان للملكيين إذاعة مداها أطول تبث من «الخوبة» في نجران، تعمل طول الوقت على التشكيك في قدرات القوات المُدافعة، وتُحرض القبائل على نهب العاصمة، وهذه النقطة استغلت جيداً، من خلال التذكير بما حدث في «مارس 1948».
كما كانت اذاعة الملكيين تذيع بين الفينة والأخرى أخبار كاذبة، عن سقوط مواقع، وقالت ذات نشرة، أن قذائفهم تمكنت في ضربة خاطفة لأحد المواقع؛ من قتل وجرج أكثر من «200» جندي، وتدمير «5» دبابات، وعدد من المدافع والرشاشات، مع العلم أن عدد الدبابات داخل صنعاء كانت حينها لا تتجاوز الـ «44» دبابة، وكانت اذاعة صنعاء تكتفي بالرد الساخر، وحين أذاع الملكيين خبراً عن سقوط «عصر»، أكتفت ببث أغنية راقصة لـ «صباح».
وعلى منوال «رُب ضارة نافعة»، قصف الملكيون ذات نهار رمضاني «الجامع الكبير»، وبداخله حشد من طلبة العلم أكثرهم «مكفوفون»، نجا من نجا واستشهد من أستشهد، أستغل صحفيو الإذاعة الحادث، ووظفوه خير توظيف، من خلال التركيز على الجانب الديني، قابل الناس النبأ بالاستياء الشديد، خاصة أولئك الذين كانوا ينظرون للملكيين من أنهم أنصا
ر للدين، وحماة للشريعة.
إبان فترة الحصار تعطلت كل وسائل الإعلام ما عدا الإذاعة، التي كانت «وزارة الإعلام وكل الصحف والمجلات»، كانت هدفاً أساسي للقذائف الواردة من جبلا «عيبان» و«الطويل»، وأول قنبلة مُعادية سقطت في «ميدان العلفي» كانت تقصدها، وكان نصيبها لوحدها طول فترة الحصار أكثر من «300» قذيفة، وكان العاملون فيها يستشعرون أهمية ما يقومون به، لم يهربوا أو يتراجعوا قيد أنملة، وظل لصوتهم، وتعليقات مديرها عبدالله حمران، صداه الفاعل حتى نهاية الحصار.
ذات يوم نزلت قذيفة بجانب الأستوديو الوحيد، كان فيه بعض المذيعين والمهندسين، اختفى البعض في زوايا المكاتب البعيدة عن النوافذ، فيما آخرون اختبأوا تحت المكاتب والكراسي، فجأة «رن التلفون»، يقول محمد الشرفي «المذيع والشاعر المعروف»: أجبت، فإذا هو القاضي عبد الرحمن الإرياني يسأل: ماذا حدث؟ قلت له الأمر بسيط إحدى القذائف نزلت بجانبنا، فصرخ الزملاء «ماذا يا شرفي» قُلت: لا شيء..!!، أما ترى حالنا تحت المكاتب والكراسي وبين الملفات؛ وكانت نكتة ذلك اليوم إلى اليوم.
ومن حسن حظ الإذاعة أنه كان لديها مولدات خاصة، يتم تشغيلها في حال انطفاء الكهرباء، سلمت جميعها من القصف، وضل صوت الإذاعة مستمر ومسموع، كما كان لنقل الأستوديو إلى طابق أرضي أثره على المستمعين، لأن الصوت لم يعد بذلك النقاء المعهود، وفي أواخر الحصار تم الربط بين إذاعتي صنعاء وتعز، وكانت عبارة «هنا صنعاء وتعز» ذات مردود فعال، وكانت هناك محطة إذاعية لم تستغل حينها، وإنما احتياطاً لأي طارئ.
أثناء الحصار قال الشاعر عبدالعزيز المقالح، قصيدة شعرية تُحفز المقاومون على الصمود، عنوانها: «إلى السلاح.. أيها المواطنون» جاء فيها:
انتشرت على جوانب الشمس الجراح
يكاد يلفظ الأنفاس
يختفي تحت العباءة الصباح
فقاتلوا …
«أيلولكم» مجنونة من حوله الرياح
«جنكيز خان» والمغول قادمون
الأهل والديار والبنون
غدا سيعدمون
إن لم نعد السور والخنادق
ونشرع البنادق
سترتدي المدينة السواد
ستغرق النساء في الحداد
سيرجع الفساد
الليل، والارهاب، والسجون
سيرجعون
يا أيها الرجال.. يا ضمير شعبنا العظيم
يا حاملي رءوسكم على الأكف في تصميم
يا من تقاتلون في الجحيم
أنتم نهار الشمس في العيون
ولن تهون أمة، أنتم بنوها
لن تهون
تاريخنا أمانة على أعناقكم والغد
أطفالنا.. أكف أمهاتنا إلى سمائكم تمتد
لا تجعلوها- يا شموسنا- خائبة ترتد
ردوا جحافل الأعداء
لا تغمضوا أعينكم
شدوا على جموعهم شدًا
فأنتم اليوم الذي يصول
أنتم الغد الذي يثور لن يهدأ
وأنتم السلاح والكفاح
وبعد الانتصار قال «المقالح» قصيدة أخرى، محتفياً بأبطال الحصار، جاء فيها:
من زرعوا الشمس على سمائنا
وثبتوا النجوم والأقمار
وثبتوا النهار
على طريق أيلول العظيم
صدوا جحافل القديم
أوقفوا سير العار
وكانت السبعون أشرف أيام الخلود