29.3 C
الجمهورية اليمنية
6:57 مساءً - 27 أبريل, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

العم علي الدم: عندما يكون الإنسان معلما لمكان!

د / بلقيس محمد علوان :

علی ضفاف السائلة: بالقرب من مسجد قبة المهدي وأمامك مباني صنعاء القديمة المتراصة بعنفوان وبهاء لا مثيل له، أول الدكاكين الصغيرة هو دكان العم علي العمراني، حيث الشاي الشهير بكوب زجاجي أو ب “قوطي” أي العلبة المعدنية، والتي عادة ما تكون علبة الحليب، وكثيرون يفضلون شرب الشاي بالقوطي.
هناك حيث يتقاطر الناس: عائلات وأصدقاء، شباب وفتيات، نشطاء المجتمع المدني ونجوم الرياضة والفن والأدب والمتقاعدون و مسنو صنعاء القديمة بوجوههم المألوفة، وكأن بينك وبينهم تاريخ تعرف كل تفاصيله، تعرف ذلك من سماحة وبشاشة وبساطة حديثهم، وروح الترحاب التي يغمرون بها كل قادم أو عابر، كل هؤلاء يجمعهم العم علي الدم (بكسر الدال)، وإذا وصلت دكانه وقت آذان للصلاة فلن تفلح كل محاولاتك في إقناعه بالبدء بإعداد كوب شاي قبل أن يؤدي صلاته في جماعة قبة المهدي.
هناك علی ضفاف السائلة تأخذك المشاهد المتتابعة غروب الشمس وحلول الظلام وإضاءة السيارات والمنازل، وسلسلة الذكريات التي تنساب دون إذن أو استدعاء وأنت تشرب شايا أعدته يدا عم علي الدم.
ولاسمه حكاية تضاهي سمعة الشاي والقهوة اللتان يصنعهما بكل حب، ولعل هذا سر الطعم الفريد.
أما اسمه الذي عرف به وطغی علی اسمه وأعني”علي الدم” فلانه في محله الصغير عادة ما يعتني بمجموعة من القطط”الأدمم” ويغدق عليها من حليبه الذي يستخدمه في عمله لإعداد الشاي والقهوة، ولا يمكن أن تزوره إلا وتری العديد من القطط في الدكان الصغير ترافق حركته جيئة وذهابا.
يقولون في مصر: إن من يشرب من ماء النيل يعود إليه، وفي صنعاء لا يمكن أن تكون في السائلة ولا تشرب من شاي عم علي المغلي(المعروف بالمفور) المضاف إليه الحليب بسخاء، وإذا شربت شاي العم علي مرة فلن تكون الأخيرة، ستدعو أصدقائك، وتضيف زائريك من المحافظات الأخری بكوب شاي مفور بالحليب، ولا تستغربوا أن يضيفك صديق في حضرموت “مندي” لترد له العزومة في صنعاء بكوب شاي ولكن عند العم علي وعلی ضفاف السائلة. أقول ضفاف لأن السائلة تتحول في موسم الأمطار إلی نهر ضيق لا تنقصه إلا القوارب، جراء تدفق السيول وهو مشهد لا ينسی.
في سنوات الحرب والصراع تضاعف سعر كل شئ، فبعض السلع مثل السكر والحليب والشاي والغاز المنزلي وصلت الزيادة في أسعارها بين 200 و300%، لكن العم علي رفع السعر بمقدار 20% وأصبح سعر كوب الشاي مائة وعشرين ريالا، وعندما تشتري منه ستظفر بكوب شاي وحكاية من حكاياته التي كثيرا ما حكاها لزبائنه: حكاية زواجه وانفصاله، العيش بمفرده، وخسارته لدكان آخر كان يمتلكة، وحكايات أخری.
هل كان العم علي يكسب من عمله؟ وهو الذي يبالغ في إكرام كل مشتر منه، وهو الذي يصر أن يعد كل جزوة شاي بمفردها لا يهتم لتوفير الغاز أو الحليب أو السكر.
قادتنا أقدامنا أنا وصديقتي سوزان الی محله طمعا في كوب شاي بالحليب وقضاء لحظات علی ضفاف السائلة بعد يوم عمل، فوجئنا يومها بطابور طويل من المنتظرين لشايهم، نظر إلينا العم علي، ثم توجه بحديثه للواقفين: سأبدأ بعمل شاي الأستاذتين فلا يليق أن تنتظرا، وبالفعل بدأ بنا ومنحنا كوبا ثالثة تحية منه، جلست وسوزان نشرب الشاي، ومن المألوف أمام دكان علي الدم أن تجد نساء لوحدهن أو رجال ونساء، أو رجال بمفردهم.
رحل العم علي إلی جوار ربه! رحل بلا ضجيج! وبرحيله لم نفقد إنسانا بل معلما لمكان ملأه بروح جميلة، وأصبح ذلك الركن موحشا فارغا، وعلی الرغم من نشوء الكثير من المقاهي أكثر سعة وأناقة وتجهيزات، لكنها لن تضاه دكان عم علي البسيط ذي التجهيزات المحدودة.
لم يكن علي الدم شاعرا أو سياسيا، أو ثريا ولا يبد أنه كان يسعی للربح، لكنه كان روحا جميلة أسعدت الجميع ولسنوات طويلة، وبرحيله فقدنا حكاياته وابتسامته والشاي المفور.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد