بلال الطيب :
تبقى القبيلة عصى الإمامة الغليظة، حتى إذا ما ارتدَّت؛ عادت فوق رأس القبيلي، شجته وأدمته، دون أن يكترث للأمر، أو يحرك ساكناً، فالأئمة ـ وعلى مدى تاريخهم ـ جعلوا منه عبداً مُطيعاً، بلا روح وطنية، بلا نزعة استقلالية، يرتمي في أحضان هذا الإمام أو ذاك، وينتصر في الغالب لمن يدفع أكثر، ورحم الله الشاعر «القارة» القائل:
القبيلي عدو نفسه
صدق، قد قالها المجرب
كم يطيش في الظلال حسه
حين تشرق وحين تغرب
بعد أن جنَّد له جيش من السودان، أراد «المهدي ـ صاحب المواهب» الاستغناء عن القبائل الشمالية، وألزم صالح حبيش «شيخ بكيل» البقاء في بلدته برط، رغم الخدمات الكبيرة التي قدمها الأخير له، كما قام بطرد مجاميع «حاشدية» من بوابة قصره، وأمر احتقاراً بغسل الأماكن التي قعدوا عليها، وقتل بعض مشايخهم، ووزع الناجين في السجون.
تبعاً لذلك، وبعد ثلاث سنوات من القطيعة، أعلن «ابن حبيش» تمرده «1116هـ / 1707م»، وقام بمساندة مجاميع «حاشدية» بنهب مدينة «حبور»، وهو تمرد دموي، كانت ذريعته الأولى معاضدة الأمير عبدالله بن أحمد بن «المتوكل» إسماعيل، وقيل أنهم نصبوه إماماً، ليهرب ـ فيما بعد ـ إلى مكة المكرمة.
أرسل لهم «المهدي» قوات كثيرة بقيادة ولده المحسن، عمل الأخير على مصالحة «ابن حبيش»، بعد أن رأى كثرة أنصاره، الأمر الذي أغضب والده، استدعاه إلى «المواهب»، وأمر بحبسه، وفي السجن توفي والأصفاد فوق قدميه.
في العام التالي، أرسل «المهدي» بقوات أخرى بقيادة حسين القطابري، أعلن الأخير تمرده، فأرسل الإمام ولده إبراهيم بقوات نظامية لإخضاعه، وأرسل من جهة تهامة بقوات ثانية لإخضاع القبائل المُتمردة، بقيادة ابن أخيه الناصر بن الحسين، فانتصر الأول، وهُزم الأخير.
رغم نجاح «المهدي» في استمالة «ابن حبيش» إلى صفه، لم تهدأ التمردات «الحاشدية» ضده، فما كان منه إلا أن سير «شيخ بكيل» لحربهم، بعد أن زرع الفتنة بينهم، وعلق «أبو طالب» على ذلك: «وكان قاعدة الإمام يسالم بكيل طوراً، ويباين حاشد، ويحارب هؤلاء بهؤلاء.. ولا يزال هذا دأبه، ولا يعجبه غير عدم الاتفاق بينهم».
وحين أعلن أهل عمران تمردهم «1119هـ»، بمعاضدة من «حاشد»، أرسل «المهدي» لهم بـ «ابن حبيش» مرة أخرى، استسلموا له بعد أن أعطاهم الأمان، إلا أنه تنكر لهم، نهب وخرَّب مدينتهم، وأرسل ستة من مشايخهم مُكبلين بالقيود إلى «المواهب»، وهناك أمر الإمام بقطع رؤوسهم على الفور.
جدد «الحاشديون» تمردهم، فأرسل لهم «المهدي» بابن أخيه القاسم بن الحسين، مُعززاً بـ «ابن حبيش»، كانت هزيمتهم قاسية، وعنها قال «أبو طالب»: «وأسر من شيوخهم الكباش، ووجه العَلَم القاسم بالأسرى والرؤوس إلى الإمام»، خرَّب الأمير المنتصر بيوتهم، ونهب أموالهم، وملأ السجون بمقاتليهم، واستقر في خمر مدة، ومنها أرسل الولاة إلى المناطق المجاورة، وفيها همش «شيخ بكيل».
عاد «ابن حبيش» إلى قبيلته مُغاضباً، ليتوجه بطلب من سيده الإمام جنوباً، وأسندت له مهمة قيادة القوات القبلية الكبيرة التي تداعت حينها للجهاد والثأر من «اليوافع»، وفي يافع حصل الخلاف بينه و«شيخ سفيان» المدعو «ابن جزيلان»، الأمر الذي أدى إلى هزيمتهم، وتفريق شملهم.
في العام «1121هـ »، رست سفينتي شحن فرنسيتين في ميناء المخا، استدعى «المهدي» طبيبهم، فأرسلوا له وفدا مكوناً من «20» شخصاً، استقبلهم في «المواهب» استقبالاً ملكياً، وهم أول أوربيون تطأ أقدامهم «اليمن الأعلى» في العصر الحديث، نشر أحدهم ويدعى جان دي لاروك بعد عودته إلى بلاده كتاباً أسماه «رحلة في العربية السعيدة»، ألهم من خلاله الرحالة الأجانب لزيارة اليمن.
كان كهلاً، مُتقشفاً، وسيماً، مزواجاً، هكذا جاء وصف «لاروك» لـ «المهدي»، وأضاف: «وللإمام الحالي كما هي عادة كل الأسر الحاكمة في الشرق، عدد كبير من النساء، يقدره البعض بستمائة أو سبعمائة امرأة.. قد أتين من جنسيات مختلفة، فمنهن حسناوات رائعات الجمال من جورجيا، ونساء عربيات أيضاً ذوات بشرة بيضاء»، وأشار إلى أن الإمام تزوج أثناء تواجدهم من فتاة تركية صغيرة، لا يزيد عمرها عن ثماني عشرة سنة.
من جهته أشار «أبو طالب» إلى أن «المهدي» تزوج حينها بفتاة من نجران، لكسب ولاء قبيلتها «يام»، والتضييق من خلالهم على صعدة، خاصة وأن صاحبها «المنصور» علي بن أحمد كان عام ذاك في عداد الأموات، وخلفه ولده الحسين، مُتلقباً بـ «المؤيد».
بالعودة إلى تمرد «حاشد»، أرسل «المهدي» بـ «ابن حبيش» لمعاضدة القاسم في اجتياح مدينة حوث، وحين تحقق لهما ذلك، وعاثا فيها نهباً وخراباً، بدأ كل منهما يتربص بالآخر، أوكل القاسم لأفراد من همدان مهمة اغتيال «شيخ بكيل»، نجحوا في ذلك، فأرسل بالرأس إلى «المواهب»، وهناك أمر الإمام بأن يقبر مع رؤوس مشايخ عمران الذين سبق وغدر بهم.
خوفاً من انتقام «بكيل»، عمل القاسم على استمالة «عصيمات ـ حاشد» إلى صفه، أغدق على شيخها محمد الغريبي بالأموال، رفض الأخير إعطاء الشيخ علي بن قاسم الأحمر شيء منها، انضم الأخير إلى «البكيليين»، وحرضهم على قتل الغريبي، رغم أنه عمه، ولم يحدد المؤرخون هل هو أبو زوجته أم زوج أمه.
كانت «بكيل» قد استعدت لحظتها للثأر، بقيادة علي حبيش، صنو الصريع، توجهت حشودهم إلى خمر، بعد أن فتح لهم «ابن الأحمر» أبوابها، حاصروا القاسم بدار الإمارة، فيما استمات «ابن جزيلان» وأصحابه بالدفاع عنه، الأمر الذي أدي لتراجع «البكيلين»، أما القاسم فقد استدعاه عمه، وجعله والياً على صنعاء.
في العام التالي «1123هـ»، أمر «المهدي» ابن أخيه القاسم بالفتك بمجاميع من «ذي حسين»، سبق وأن استدعاهم إلى صنعاء، لم يستصوب الأمير الرأي, الأمر الذي أدى إلى عزله، ليتحول صاحبه «ابن جزيلان» إلى خصم للدولة، قاد قوات قبلية كبيرة، واجتاح بهم تهامة، وعاث فيها نهباً وخراباً.
بعد تلكؤ، كلَّف «المهدي» ابن أخيه القاسم بتأديب تلك القبائل، كانت له انتصارات متسارعة، إلا أنها لم تشفع له عند عمه، استدعاه، ثم أمر بحبسه، والسبب؛ سماحه للحسين بن «المنصور» القاسم بن «المؤيد» بالعودة إلى شهارة، بعد هروبه من «المواهب»، وقد تربص «المهدي» حينها من لقاهم شراً.
تحققت مخاوف «المهدي»، أعلن الحسين بن القاسم من العصيمات نفسه إماماً «1224هـ»، وتلقب كأبيه بـ «المنصور»، ناصرته غالبية القبائل الشمالية، وحظي بدعم وإسناد كبيرين من صاحب «أبي عريش» عز الدين القطيبي.
دارت خلال العام التالي حروب وخطوب، وقف فيها «ابن الأحمر» في صف «المهدي»، بعد أعطاه الكثير من الأموال، وقد استعاد له «حبور، وظليمة» لبعض الوقت، وحاول استعادة «السودة»، وهو كما قتل الفقيه حسن كعيبه؛ كانت نهايته قتيلاً على يد أحد الأئمة.
لجأ «المهدي» إلى جيشه النظامي، الذي سبق وأن استقدمه من السودان، وخاطبهم: «إنما أدخركم لمثل هذا»، وجههم في البدء إلى «المخلاف السليماني»، لمحاربة «القطيبي»، هزموه واقتادوه إلى «المواهب»، وهناك ضرب عنقه.
بايع الجميع «صاحب شهارة»، بمن فيهم «صاحب صعدة»، قاد الأخير حملة عسكرية صوب تهامة، بتوجيه من الإمام الجديد، ولم يعد من هناك إلا إلى القبر، وقيل أنه مات مسموماً، بعد أن أرسل «المهدي» من دس له السم، دعا صنوه القاسم لنفسه من بعده، إلا أنه لم يظفر بشيء.
كانت هزائم «المهدي» متوالية، وحين رأى سقوط المناطق من تحت يديه، و«لم يبق معه إلا بعض تهامة والبنادر، ومن ذمار إلى اليمن الأسفل، أجاش الجيوش من أهل النجدة والبأس، وطلب السودان من كل بندر، وألبسهم الطرابيش والجوخ الحمر، وبذل فيهم الأموال»، كما أشار «أبوطالب»، وأضاف: «وألزمهم بوضع السيف من باب شيام، إلى أطراف الشام»، إلا أنهم تعرضوا في عمران لهزيمة نكراء «1126هـ»، قُتل غالبيتهم، وأطلق من نجا منهم عرايا مجدوعي الأنوف والأذان.
في الوقت الذي وقف فيه «ابن جزيلان» مع «المنصور»، وقف «ابن حبيش» مع الطرف الآخر، اشترى «المهدي» ولائه، وأنساه ثأره، كما اشترى ولاء الأمير زيد بن علي، ابن أخ «المنصور»، وقائد جيشه، صحيح أن الأخير ألب الناس وخذلهم، إلا أن عمه ظل الطرف الأقوى، عاد إليه خاضعاً، فوجه بحبسه.
ضاقت الدائرة على «المهدي» أكثر وأكثر، ولم يجد أمامه من خيار سوى الاستنجاد بابن أخيه القاسم، أخرجه من السجن، وأطلقه على «صاحب شهارة»، وقد اشترط القاسم عليه إطلاق يده، وتحييد أبناءه، وأن يعطى من السلاح والخيل ما يريد، وأن يتم إقطاعه «صنعاء، وعمران، وكوكبان، والمغارب».
حقق القاسم لعمه بعض الانتصارات، وحين رأى ألا سبيل لإخماد تلك التمردات، أعلن هو الآخر من عمران عصيانه «1127هـ»، التف الناس حوله، وأرادوا مبايعته، إلا أنه تمنع واقترح عليهم «المنصور»، اجتمع بالأخير، وصار من أكبر قواده، وكذلك فعل أبناء عمه إسحاق، فامتدت الحرب بذلك إلى «اليمن الأسفل».
ظل «المهدي» مُتمسكاً بالإمامة، مُتحصناً بـ «المواهب»، وحين أشتد عليه الحصار، خلع نفسه «رمضان 1128هـ»، وبايع «المنصور»، وجاء في وثيقة تنازله: «فرجح عندنا وعند ذوي الدين، أن نحقن دماء المسلمين، ونسعى في جمع كلمة المؤمنين، ونخمد نيران الفتن التي كادت أن تهلك سكان اليمن».
عاد حينها الأمراء الإقطاعيون لغيهم، بعد أن كان «صاحب الموهب» قد حدَّ من نفوذهم، ليحذوا هو الآخر حذوهم، اشترط لنفسه قبل تنازله «خبان، وريمة، وبيت الفقيه»، فيما اشترط ابن أخيه القاسم لنفسه «صنعاء، واللحية، والزيدية، وحجة، والسودة» وغيرها، وقد كانت «تعز، وشرعب، والعدين، ووصاب، وذمار» من نصيب أبناء إسحاق.
رغم أنه مستوفي شروطها، لم يكن لـ «صاحب شهارة» من الإمامة سوى الاسم، عزل قائد جيشه القاسم بن الحسين، فيما تخلت القبائل عنه لضعفه ولذهاب ما في يده من الأموال، أفسدوا، وكثر تعديهم، فما كان من علماء الزيدية في صنعاء إلا أن نصبوا الأمير المعزول إماماً «1128هـ»، رغم أنه غير مستوفٍ شروطها، وقد تلقب بـ «المتوكل».
دارت حروب كثيرة بين «المتوكل» و«المنصور»، ولم يبق تحت سيطرة الأخير سوى «شهارة، والسودة، والشرفين»، وبقي رغم هزيمته على دعوته حتى وفاته، قُتل «شيخ بكيل» علي حبيش وهو يقاتل في صفه، فيما انحاز «ابن جزيلان» إلى الطرف الآخر، أما «ابن الأحمر» فقد ظل متذبذباً بين هذا وذاك.
وفي «اليمن الأسفل»، ظل أبناء إسحاق على بيعة «المنصور»، وجه «المتوكل» بجيوش كبيرة لحربهم، دارت حروب، وسفكت الكثير من الدماء، ولم ينتصر عليهم إلا بعد عناء، «صاحب المواهب» هو الآخر جدد دعوته، توجه إليه «المتوكل» بجيش جرار، حاصره حتى خلع نفسه، وقيل أنَّ روحه انخلعت أثناء الحصار «رمضان 1130هـ»، عن «83» عاماً.
بنظرة فاحصة لفترة حكم «صاحب المواهب» التي قاربت الـ «33» عاماً، نجد أنه كان للملك أقرب، عملت الـ «15» سنة التي قضاها في الحجرية ـ مُتولياً عليها ـ على إزالة تلك النزعة العنصرية التي لازمت من سبقه من الأئمة، وقد شهدت فترة حكمه انفراجاً محدوداً في الضغط على الأفكار المذهبية، ولم يسجل المؤرخون في عهده أحداثاً ذات نزعة طائفية، رغم أنه كان الأكثر طغياناً.