كتب / فؤاد مسعد:
ما إن طوى الشعب اليمني صفحتي الاستبداد والاستعمار في ثورتي سبتمبر وأكتوبر قبل نصف قرن حتى أطلت الدولة الوطنية في كلا الشطرين، حاملة معها أهداف الثورة ومبادئ النظام الجمهوري وطموحات الشعب وآماله في بناء الوطن حرا مستقلا بجيشه القوي واقتصاده الوطني وفق أسس العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمحافظة على السيادة وتأكيد مبدأ التداول السلمي على السلطة.
بيد أن الانتقال إلى الحالة المرجوة لم يكن انتقالا ميسورا ولا كان طريقه مفروشا بالورود، بل على العكس من ذلك بدا محاطا بالكثير من المعوقات والصعوبات والعراقيل بعضها ذاتي نابع من طبيعة التجربة وخصوصية الحالة اليمنية بأطرافها الفاعلة وقواها المعنية في صناعة الحدث وتحديد الخيارات، وبعضها الآخر موضوعي مرتبط بالمحيط الإقليمي والدولي والظروف والملابسات التي شهدها اليمن وتجاذبت شماله وجنوبه تارة شرقا وتارة أخرى جهة الغروب.
الصراع المزمن
وإن كان ثمة توصيف للحالة الوطنية اليمنية في مرحلة ما بعد الثورة والاستقلال فهي مرحلة الصراعات السياسية والعسكرية بامتياز سواء قبل الوحدة أو بعدها.
وإن تتبع أسباب الصراع وجذوره واثاره بقراءة واعية وموضوعية يكشف حقيقة مفادها الرغبة في التسلط الذي جعل كل طرف يحتكر لنفسه صفة الوطنية والثورة فيما خصومه من وجهة نظره خونة ومتآمرون ومرتزقة وانتهازيون.
وتبعا لذلك التصور المتطرف في أحكامه والمبالغ في تقييمه شن كل طرف حربا شاملة ضد الطرف/الأطراف الأخرى شملت التصفية والاعتقالات والاختطافات والإخفاء القسري والتشريد والتنكيل وتشويه السمعة، وتاريخنا طافح بكل هذه التشوهات التي دمغت فترة الصراعات التي كانت سيدة الموقف.. ولا زالت اليمن حتى اللحظة تعيش واحدة من أسوأ الصراعات السياسية والعسكرية ذات الجذور الفكرية والاطماع والأبعاد المختلفة.
ومما تقود اليه تجربة اليمن الحافلة بالدروس أن حكم اليمن أو جزء منه بفئة أو طبقة أو حزب أو طائفة يأتي في حكم المستحيل أيا كانت قوة هذا الطرف أو ذاك، ذلك أن الطرف القوي مهما بلغت قوته يظل أضعف من التصدي لحكم البلد أو إدارته وإقصاء خصومه وإن بدوا هامشيين ومهمشين او مهشمين في جولة من الجولات او فصل من فصول الحرب، ونتذكر كيف تهاوت قوى وأطراف بعدما ظنت أنها وصلت إلى نهاية التاريخ.
مؤتمر الحوار الوطني
النتيجة المتعلقة باستحالة حكم اليمن بطرف دون بقية الأطراف وصلت واضحة جلية عقب انطلاق ثورة الشعب السلمية في العام 2011 التي جاءت بالمجتمع الدولي وسيطا وراعيا وداعما لما أطلق عليها “الانتقال السياسي” بعدما دفعت القوى السياسية إلى التوقيع على اتفاقية انتقال السلطة المعروفة باسم المبادرة الخليجية أواخر العام 2011،إذ شرعت الدول والقوى الإقليمية والدولية الراعية لعملية الانتقال السلمي إلى دعم انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، كان هو وحده المخول عبر ممثلي القوى الوطنية المشاركة في أعماله بتقرير مستقبل اليمن وصوغ آلية الإدارة لما بات يعرف باليمن الجديد.
وخلال فترة انعقاد مؤتمر الحوار التالي ناهزت العام تقريبا ظلت التجربة السياسية سلبا وايجابا حاضرة وماثلة بقوة لدى اولئك المعنيين بدراسة جذور القضايا الرئيسية والكبرى، الأمر الذي دفع الكل لاستماع الكل، وجعل اليمنيين لأول مرة يتحدث بعضهم على أرضية شبه متساوية تستوعب الجميع دون تحيز لطرف على حساب طرف آخر، ودون أن تقرر قوة استبعاد غيرها وفق منطق الاستعلاء والاستقواء.
الدولة الاتحادية
أفضت أعمال وجلسات ونقاشات مؤتمر الحوار الوطني إلى سلسلة طويلة من النتائج والمعالجات والتوصيات والمخرجات التي استوعبت القضايا المهمة في بناء الدولة المنشودة.
وجاء في طليعة تلك المخرجات إقرار الانتقال بالبلد إلى الدولة الاتحادية التي تتجاوز آفات الحكم المركزي المتسلط إلى آفاق المشاركة الشعبية والمجتمعية المحلية الواسعة في صناعة القرار وإدارة الدولة، بعيدا عن سطوة القوة المنفلتة وقوة السلطة المطلقة.
وما إن شرعت أطراف الحوار الوطني تضع المداميك الأساسية للدولة بالصيغة المتوافق عليها عبر إنجاز أولى المهام الممثلة بإعداد الدستور حتى أطلقت قوى العنف والتسلط المتخلفة شارة البدء في حرب ضروس دشنتها مليشيات الحوثي وحليفها صالح بالانقلاب المسلح على مؤسسات الدولة واجتياح المحافظات في موقف يكشف عن ذعر هذه القوى من وصول اليمنيين إلى الحلول التي توافقت عليها أغلبية القوى الوطنية بدعم المجتمع الدولي والأمم المتحدة، ذلك أن الانتقال إلى الدولة الاتحادية يحول دون بقاء عصابات المركز المتسلط ممسكة بمقاليد السلطة والثروة، كما أنه سيقضي على نزوع الأطراف المتطرفة التي يحلو لها العيش بعيدا عن سلطة القانون ومؤسسات الدولة.
ومع ما تعيشه البلد من تداعيات الحرب الراهنة وما قادت اليه من خراب طال كل شيء، يبرز خيار الدولة الاتحادية حلم اليمنيين الجامع، وهدف النضال الوطني منذ انطلاق الثورتين وعبر محطات متتالية في التجربة السياسية التي أثبتت لكل ذي بصيرة أن قدر اليمن بناء دولته المنشودة وقدر اليمنيين الانتقال من صراعات المركز المفتعلة إلى فضاء المشاركة الفاعلة.