حين يموت فنان ، تشعر أن نجمة كانت تراقبه من فوق عليائها ، وأنها حزينة لهذا الفراق ، لأنه الوحيد الذي كان يرفع رأسه نحو السماء . أعلنت النجمة وجاراتها الحداد ، حتى يأتي فنان آخر ، يقيم علاقة عشق مع كواكب السماء .
وجد خلاصه الأخير ، نافضا عن جسده ، المرارات ، الخيبات ، والآلام المبرحة ، وتلك الخيانات الدسيسة والرخيصة ، التي آلفتها أجهزة السلطة ، في تكدير حياة الإنسان ، خصوصا أولئك الذين يحملون القلم والريشة !
ما الذي يجعل الريشة أمضى من البندقية ؟ ولماذا كل هذا الخوف من فنان ، تحرمه حد الكفاف ، وتوفير حقه الشرعي في العلاج والراتب ، والموت دون تسول ؟
القتلة ، لا يشعرون أنهم يخّلدون الفنان بغبائهم !
ولكن هل هذا يعني أن نتقبل الموت بصمت ؟
كنت أسميه زنجي الوسيم ، حين كان يحمل لوحاته الفنية ، محاطا بطالبات قسم الفنون الجميلة والموديلات ، في دمشق ، في شارع العباسيين ، كما أعتقد ،في ذلك القبو وكنت أمر من هناك باتجاه منزلي في منطقة القصاع – تجارة .
كان منزله الطلابي المشترك في دمشق ، ملجأً لكل شارد ، جائع ، لا يجد قوت يومه ، ولا تكفيه المنحة . كان الجبزي المهندس الذي لا يشبع ضحكا وطعاما ، يتصدر كل مجاميع الموائد التي لا تنقطع ! محمد المحمودي ،علي الرياشي ، أحمد الحداد ، فضل الحامض ، وحتى صديقي الفوهرر سعيد عبده غانم ، كان يطوف بمزار البيت .، ويمنحه نمنمة الموازييك ، وتداخل الأطياف الطلابية .
كان بيت الطلبة … والمجاهد الفنان الأكبر ، يتربع المشهد بكرشه الذي بدأ يتشكل ، لزوم الفن ، والشعر المقعش – المنفوش ، بتسريحة أنجيلا ديفيز ، تلك الزنجية الثائرة ، ومرسمه – غرفته ، المتناثرة اللوحات .
كم كنت أتمنى لو جعلته يرسمني ، في ذلك الزمن البعيد من فردوسنا الذي لا ننساه في بلاد الشام ، دمشقنا الذي كان المجاهد فيها جوكر المدينة ، بطيبته ، وسماحته ، وقلبه الطاهر .
الباب الكبير – باب موسى – المظفر – مملكة آل رسول ، وذلك الطاقم المتوارث من الفقهاء والعلماء والقضاة … ومنزل آل أبو طالب ( المهدي لاحقا ) ، بيت الباشا ، المحلوي ، عبدالملك منصور ، وفترات النضال الطلابي .. كل هذا كان إرثا خالدا في ذاكرة الفنان ، لم تستوعبه مراحله الأولى ربما ، ولكنها ساهمت بشكل فعّال في رسم خارطة طريقه ، نحو المجد والحرية والديمقراطية ، والعدالة التي لا تنتهي .
ما الذي تبقى لنا من الصديق العزيز ، زنجي الوسيم ، عبد الله المجاهد ، غير لوحاته التي تستحق أن تنتشر في جداريات الوطن ، كي تكون شعار الفن الذي هزم البندقية .
رحلت .. ولكن عبقك الفواح – ليست تلك الرائحة الخاصة لإبطيك في شقة التجارة – بل شذى عطرك الفني ، وروحك الطاهرة ، لن تغادرنا طويلا .
حامد السقاف
القاهرة – أيلول ٢٠١٧ م
أخبار ذات صلة
انقر للتعليق
جار التحميل....