بلال الطيب :
إنها تعز.. سيدة المدائن، وأصل الصمود، ومنبع التحدي، فاتنة، نابضة بالحب، مُصرة على البقاء، هائمة في عشق الجبل، مُستلقية بين ذراعيه، في غفوة طولية الأمد، زاهية، تُشع جمالاً وطيبة، مُتواضعة، جهل أبناؤها قدرها، وتمنى الغريب أن يستوطنها، وأنَّ لا يفارقها، قوية، حالمة، أحالت حياة أعدائها ـ أعداء الحياة ـ إلى كوابيس.
لم تكن أيام الحالمة العيدية هادئة كالعادة، فقد عكرت قذائف الموت صفوها، وهدَّ الغزاة الجدد سكونها، جعلوها عذاباً آخر، تضاعفت فيه معاناة سكانها، وتعاظمت مُصيبتهم، وما من يوم مر إلا وسقط فيه ضحايا، وهي كعادتها قوية صلبة، لم يعد يرهبها لون الدماء، لم يعد يرعبها صوت الفناء، لم يعد يفجعها موت فقد أدمنت كفاها دفن الشهداء.
رغم مرارة الحرب، وقساوة الحصار، لم تتغير طقوس تعز العيدية، ألف سكانها أصوات القذائف، وتعايشوا معها، واتجهوا كالعادة صوب الأسواق، والحدائق، والمتنزهات، ملأوها بضجيجهم، وأغانيهم، وضحكاتهم، وعادوا إلى منازلهم، وكلهم شوق ليوم عيدي آخر، ولعيد حالم آخر.
كما أن المدى يعجز عن إحاطته البصر، فإن حدود الجمال في تعز لا يتوقف، فحيثما ولّيت، تجس اعجاباً طرياً يوغل في النفس، وتستقبلك العديد من المشاهد المملوءة بالدهشة، لمدينة حافلة بالجمال، بالحب، بالحياة، تحكي تفاصيل آسرة، لتميز أضرم في المرء العقل وتحذق الوجدان.
في تعز.. وفي أيام العيد بالذات، يحلوا للمرء التجوال في أزقتها العتيقة، ومدينتها القديمة، وصولاً إلى قلعة القاهرة، حيث تنسكب الفتنة انسكابا، وجلها معالم رائعة، زاهية بالوصل، مُفعمة بالسكينة، الدخول إلى رحابها له مذاق خاص، ونكهة عابقة، والغوص في تفاصيلها لا يشبهه أي غواص، والأهم أنها تجعل الواحد منا «حتماً يُسبح الله».
في تعز.. لا تكتمل فرحة العيد إلا بزيارة «جبل صبر»، حيث الطبيعة الساحرة، والجمال الاخاذ، والقرى المُعلقة التي تسامر النجوم، ولا يحلوا لزوار الجبل الصعود صوب قمته إلا على إيقاع النسائم العليلة، لتنهال عليهم مع كل منعطف باقات من الشُقر الصبري الفواح، ولا يحلوا المقيل في شعابه الخضراء إلا على صوت أيوب طارش الصداح.
مع أغاني «أيوب» يحلو للمرء أن يستأذن الزمن، للدخول إلى صفاء الحياة وهدوئها، ويستشف الوفاء والبقاء والأمل من نظام طبيعتها، «أيام الهثيم» مُستمرة، و«دخداخ النسيم» يعطر الأجواء، و«إشراقة الصبح وسحر الغروب» تضاد مُبهر، وأروع من ذلك تناغم خمائل الورد والزهر وقطر الندى، ورونق الشمس وظل الغيوم.
غنائية «طاب البلس» جسدت الهروب الكبير إلى حضن الطبيعة، والاكتفاء بها، فهي بحث عن حب الوطن لا المرأة، «أشتي بلس بس.. أما الحب قلبي قد شرب منه لحتى قال بس»، اختزلت المكان بكل ما يحويه من ملامح الطبيعة الاخاذة، وضف الشاعر «الفضول» فيها امكانيته الشعرية في تصوير تلك الرحلات التي قادته إلى الجبل في صباحات مُتعددة.
يسقيك محلا ورودك وغرسك وصبر
يرحم أبوه من غرس
كم فيك من حُسن كم فيك من الوان فتنة
ليت قلبي نفس
هكذا اتجهت روح الشاعر لمناجاة الجبل والدعاء له بالسقيا والارتواء، لأن غرسه حلو أخضر، ووروده لا تشبه كل الورود، إلى جانب ما به من حسن وألوان جذابة لا تحصى:
والفرسك أخضر وحالي
فراسكك واصبر لا ما تسبب ضرس
خدود مثل الورد ضوء الفجر أرواها
وأعطاها المشاقر حرس
ألهمت الطبيعة خيالها للشاعر بنبرة عشق هادئة، وكما ضوء الفجر أروى الخدود الوردية، والشقر والكاذي مُسقى من برود الغلس، فإن القلب قد شرب من الحب لـ «حتى قال بس»، أمام تلك الحالة الفريدة من الارتواء يبقى عشق الجبل صفة ملازمة لكل من زاره أو سمع عنه، وحنين العودة إليه يهز كل من فارقه أو غاب عنه.
الحب للأرض والانسان
بحر الهوى يا حبيب واسع
جبل صبر للقاء نشوان
تاريخه في الهوى شاسع
والزهر فتّح مع الاغصان
يُعطر الحب من طالع
وأختم بالقول: أثبتت تعز للجميع أنها قوية صلبة، عصية على الانكسار، تبحث كل يوم عن فرحة انتصار، ترقب بصبر لحظة التحرير الشامل، وعيونها على المستقبل، تحجز لها في أجندته مكان، ولأن دوام الحال من المحال، سيمضي هذا العيد، وسيأتي عيد آخر، وتعز وسكانها حتماً سيكونون في أحسن حال.