بلال الطيب
تعيش تعز أجواء حراك شعبي رافض للفساد، مُتمرّد على المُفسدين، أعاد للمدينة وهجها الثوري المَسلُوب، فيما تعمل بعض القوى النافذة والمُستفيدة من الوضع، والقريبة من الأحداث، على التشكيك بتلك الفعاليات المُنظمة، بكل ما أوتيت من حقدٍ وتضليل.
وهناك خلف الكواليس، يعمل بعض الانتهازيين على ركوب المَوجة، وتجيير ذلك الحراك بما يخدم مصالحهم الضيقة، وإلصاق تُهم الفساد بفصيل دون آخر، إلا أنَّهم – هذه المرة – لن ينجحوا؛ لأن الوعي الشعبي – الأكثر نضجاً ووعياً – سيكون لهم بالمرصاد، وما درس «الثورة الشبابية» المُختطفة عنا ببعيد.
وفي الجانب الآخر، ثمة رافضون بعيدون عن الأحداث، وهم على قلتهم وقلة عقلهم يُجاهرون بعداوتهم لذلك الحراك، وبلغة مُستفزة، يلقون تُهمهم التخوينية لقاداته جُزافاً، تارة يقولون بأنَّهم يدارون من القاهرة، وأبو ظبي، وتارة من صنعاء، وغيرها من التُهم السامجة، ناسين ومُتناسين أنَّ تعز حددت مصيرها، وستنتصر – طال الزمن أم قصر – للثورة، وللجمهورية، ولن يضرها من خذلها، ومن يتاجر باسمها.
يدافع هؤلاء عن الشرعية الهشة، وكأنها قدرنا الذي لا فكاك لنا منه، لا ينكر بعضهم أنَّها – أي الشرعية – غارقة في الفساد من ذروة رأسها حتى أخمص قدميها، إلا أنَّ الحديث عن ذلك، وفي ظل هكذا ظرف، يخدم – حد وصفهم – الحوثي، غير مُدركين أننا بفضحنا للفاسدين، وتطهير بلادنا منهم، نكون قد جرَّدنا «الحوثيين» من أقوى أسلحتهم، كانوا يسمونها بالأمس سفينة العبور، واليوم قشة النجاة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الأسباب التي أدت لغرق تلك السفينة أصلاً!!.
أمام ذلك الوضع المُربك، وفي ظل هذا الشتات الفظيع الذي نعيشه، فقد كثيرٌ منّا البوصلة، وصاروا لا يعرفون من هو العدو الحقيقي، أو بمعنى أصح أعدائنا الحقيقيين، يغضون الطرف عن الأسباب الجالبة لمصائبنا المُتتالية، يختلقون معارك جانبية، ليتبدى ذلك القصور وبوضوح في نقاشاتهم، تختلف آراءهم، وتتعدد رؤاهم، وترتفع أصواتهم، خاصة في حال إثارة هذا السؤال: من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه؟!.
غالباً ما تأتي الإجابات مبتورة، ومُستفزة، وغير مُكتملة المعنى، ومليئة بالتناقضات، وممهورة بالأحكام المُسبقة، ولأنَّ لعنة التعصب أعمت الغالبية عن رؤية الحقيقة، صار كل فريق يُغني على ليلاه، ويُحمل المسؤولية طرفاً دون آخر، ولو فكرنا – جميعاً – بهدوء، وعقلانية، لعرفنا الحقيقة عز المعرفة، وفق تراتبية جامعة ندركها مُفرقة، ولا نعترف بها مُجتمعة، وهنا تكمن المُشكلة.
تأتي السعودية وحليفتها الإمارات في صدارة الأسباب التي أوصلتنا لهذا الوضع المأساوي، فهي عدو اليمن التاريخي المُبهم، والمُلغم، وجدت في ثورة الشباب فرصة سانحة للتدخل – بشكل مُباشر – في الشأن اليمني، فكفكت عبر مُبادرتها الخليجية ما تبقى من دولة، ثم انقضت بسرعة خاطفة على فريستها المُنهكة تحت مُسمى «التحالف العربي»، جاعلة من التمدد «الحوثي – الإمامي» – المدعوم منها أصلاً – ذريعة لذلك التدخل السافر.
وفي المرتبة الثانية يأتي «الإماميون الجدد» بقيادة الطامح عبدالملك الحوثي، ولأنهم عدو واضح لليمنيين جعلناهم كذلك، لم يكن تمددهم محض صدفه أو ارتجال؛ فثمة ارتباط وثيق بين هؤلاء وماضيهم، تماماً كـ «بني إسرائيل»، استفادوا منه، وأعادوا تدويره، وحين انهارت الدولة من الداخل، حلوا محلها، وبقراءة فاحصة لعوامل تمددهم، نجد أنَّهم اعتمدوا في الأساس على الدين المزيف، والأنصار المخدوعين، واعتمدوا أيضاً على لاعبين محليين وأجانب، كانوا وما يزالون يرونهم وسيلة انتقام لا أكثر.
عبدربه منصور هادي – الدنبوع العظيم كما يحلوا للبعض أن يسميه – يأتي ثالثاً، وجد الرجل – الفاشل والمليء بالعُقد والأحقاد والغير مؤهل للقيادة – نفسه فجأة على رأس دولة رخوة، وبدلاً من أن يتحالف مع الشرفاء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ضرب – برعاية خليجية – هذا بذاك، وذاك بهذا، مُعتقداً أنَّه يُحسنُ صنعاً، وأنَّه سينجو من النار التي ساهم في إشعال فتيلها، ليقع في النهاية – ويوقعنا معه – في شرِّ أعماله.
أحزاب «الإفك المُشترك» تأتي رابعاً، قيادات مُترهلة، وانتهازية، وتابعون مُتعصبون، يعتقدون أنَّهم الوطن، وهم الوطنية، ومن دُونهم «حوثيون، وعفاشيون، وانفصاليون.. إلخ»، تعاملوا مع الدولة كغنيمة حرب، وتناسوا شعاراتهم البراقة والخادعة التي طالما صموا أذاننا بها، وغدو مُتسولون عند صاحب السمو، يجترون ثقافة الخنوع والتبعية، ويتعايشون مَعها، ويعتاشون بها، ولا يعيرون الوطن والمواطن أي اهتمام، سقطوا في بئر الخيانة، ووحل الفساد، وغدت قيمتهم صفراً على الشمال.
علي عبدالله صالح «عفاش» هو الآخر سبب رئيسي لما وصلنا إليه، ظل لأكثر من ثلاثة عقود يتصرف وكأنه رئيس لعصابة لا دولة، وبنى جيش ولائه له وللقبيلة لا للوطن، وهي الكارثة التي أصابت الجمهورية في مقتل، ليخونه في لحظة حقد ذكائه، استحوذت عليه الرغبة في والانتقام، تحالف مع أعدائه «الحوثيين»، وحاول من خلالهم أن يثأر ممن ثاروا عليه، إلا أنَّهم – أي «الحوثيين» – كانوا الأذكى، استفادوا منه أيما استفادة، وعلى وقع إيقاعاتهم المُتسارعة كانت نهايته، أو بمعنى أصح رقصته الأخيرة، صحيح أنَّه انتهى، إلا أنَّ هناك من أسرته من يريد أن يُكمل مشواره، وبعنوان انتقامي مُختلف، ومُتخلف، متناسين أنهم وصريعهم جزء من المُشكلة لا الحل، وتجاوزهم الزمن.
وفي المرتبة السادسة والأخيرة يأتي متعصبو «الحراك الجنوبي»، تجاوز الأخيرون تأطيرهم المطلبي المشروع إلى رفع شعارات انفصالية ذات بعد مناطقي مقيت، تحت مسمى «الجنوب العربي»، وإلى استهداف مُباشر ومقصود لمواطنين شماليين، والأسوأ من كل ذلك استقواءهم بدويلة الإمارات، وإحلالها والسعودية كمحتل جديد للجنوب، ضاربين بهويتهم الوطنية عرض الحائط.
ما سبق أسباب مُجتمعة أوصلتنا إلى هذا الوضع الكارثي، والتركيز على سبب أو سببين أو ثلاثة وإغفال الأسباب الأخرى مُجافٍ للصواب، ونحنُ – أولاً وأخيراً – بحاجة ماسة لإدراك ذلك، مع العمل على إيجاد كيان وطني جامع يلم شتات الخيرين في هذا البلد، فالانتصار في المعارك المصيرية لا يتحقق إلا بقضية وطنية نؤمن بها، ونقدم لأجلها التضحيات، وقيادة قوية غير مرتهنة، ذات ماض مُشرف، ولم تتلوث بالخيانة والفساد، وحليف صادق صدوق لا يطعن من الخلف، ونُخب تعمل لأجل الوطن لا لمصلحتها، وقبل هذا وذاك التحرر من العصبية المقيتة، التي إن لم نكبح جماحها اليوم، ستصيبنا غداً في مقتل.
حراك تعز الثوري هو البداية، وهو في الأصل امتداد لحراك العراق ولبنان، وانتخابات تونس، هو الثورة الحقيقية التي لم تبدأ بعد، ونحن حينما نقول «كُلَّهم يعني كُلَّهم» نقصد بذلك تلك السداسية المُعيقة للمشروع الوطني، ولدولة المؤسسات الضامنة، السداسية اللعينة التي أججت الصراعات، وأهلكت الحرث والنسل، وهي – أي عنوان التناولة – مُفردة شاملة لها ما بعدها، ولن تتوقف – قطعاً – في مُحيط مدينة تعز المُحاصرة؛ بل ستتجاوزها إلى صنعاء، وعدن، ومأرب، والحديدة، وكل اليمن.