بلال الطيب
غُصت في أعماق الذاكرة الشعبيـة، المـُختزلة لمساحات شتى من الوجع، من القهـر، من الذُل والحـرمـان، توقفت مليـاً عند فـصـولها الكئيبة، المـَسكونـة بالخـوف، المـُشبعـة بالظلم والاستكانة، هالتـني، أفـزعتني، جعلتني أقرأ التاريخ بصورة مُختلفـة، ولأني مفتُـون باسترجاعِ الماضي، ترجمـت ذلك «البوح الدارج» إلى سطـور مُستساغة تحفظها الأيام.
التغيير إلى الأفضل كـان وما يزال حلـمٌ يراود الجميـع، وحين أراد أبناء جبل «صبر» إبان عهد بيت «حميد الدين» البائد عزل عامل لهم، تحقق لهم ما أرادوا، ليس لأنهم طالبوا بذلك؛ بل لأن ذلك العامـل بالفعل فاسد، وغير أمين في ايصال الجبايات الى «المقـام الشريف»، لتتحول حياة أبناء الجبـل بعد ذلك التغيير المشـؤوم إلى جحيم، ليس لجـرم اقترفوه؛ بل لأنهم تجـرأوا وطالبـوا بالتغييـر.
انتقم الإمام الطاغية أحمد يحيى حميد الدين من أبناء صبـر شر انتقــام، وارسل اليهم «3,000» عسكري، جُلهـم من «همـدان»، وكـان صعــود غالبيتهم إلى الجبل في ليلة شديدة الظُلم والظَلام، اجتاح الرعب الجبل من أخمص قدميـه حتى ذروة رأسه، وممـا زاد من حدته مرور ذلك الجيش بخطوات جافة مروعة، وافراده «المجاهدون – أنصار الله» ينفخون «البورزان»، وكأنهم متجهون إلى معركة النصر فيها محسـوم منذ البداية، ويرددون زوامل حرب شنيعة، نذكر منها:
يا من يخالف أمر مولانا ويعصيه
لا بد من يوم تراه
لا بد من يوم يشيب الطفل فيه
والطير يرسي في سماه
عاش أبناء جبل «صبر» تلك اللحظات القاسية بفزع شديد، سارع البعض منهم إلى إخلاء المنازل، وارتحلوا لاجئين إلى عددٍ من القرى البعيدة، وإلى الجبال والشعاب المجاورة.
«كان عسكري واحد كفيلاً بإجلاء قرية.. فما بالك بجيش أوله هنا وآخره هناااااك» قالها الحاج عبدالودود عبدالرحمن الطيب، وهو واحدٌ ممن قرروا البقاء، ثم استذكر مرور بعض اولئك العسكر وسط قريته في تلك الليلة الدهماء، وأضاف بعد أن لمعت ثناياه بابتسامة خفيفة: «لقد أجبرونا على أن نأتيهم بطعام، وكان كل بيت في المنطقـة مُلـزماً بـأن يحضر دجاجة، وفطير – خُبز حامي- وجمنة سمن»، فاشتعلت «الأفران الحطبية» في غير موعدها، في حالة شاذة لم تحصل من قبل، ولا من بعد.
أما نساء القرية ليلتها، فقد كانت معاناتهن أشد ضراوة، أنهكهن التعب والإرهاق، ونُمن نوما خفيفا في انتظار بزوغ الفجر القريب.
وكن يرددن:
واضرب دلا وابورزان واكلب
واضرب دلا طارت حمامة القلب
والعسكري أقبل والركوب بالعجش
يشتي العشاء دجي واجرته قِرش
قرية «الرباط» المـُجاورة لقريتي، خيم فيها بعض اولئك العسكر لمدة شهر كامل «حِطاط»، أغضبوا الجميع بعنجهيتهم وأوامرهم التي لا تنتهي، واستباحتهم لكل ما صادفهم من مواشي وزروع، كانوا كل صباح يذهبون إلى المراعي، يختارون أحسن الخرفان، ثم يذبحونها ويطبخونها بأيديهم، وكان اللحم أكلهم الدائم في الليل والنهار.
ومن شدة نهمهم كانوا يأكلون أوراق «المـَرَاور»، وهي نبتة مُرة المذاق تشبه «الجرجير»، تجعل من يتذوقها يتقيأ سريعاً، وبعد أن يفرغوا ما بمعدهم، يعودوا لتناول اللحم مرة أخرى، وهكذا دواليك.
ومن المشاهد التي تختزنها ذاكرة الحاجة مريم سعيد، مشهد اقتحام أحد العسكر لمطبخهم أمام والدها، وإخراجها وأمها منه، والتهامه لطعام غدائهم كاملاً، حتى «جمنة» السمن أخرجها من مخبئها وسكب أغلب ما بها على طعامه، وبعد أن شبع قام وصب جزءاً منها فوق شعر رأسه الكث والمـُقزز، وجعلها تسيل فوق وجهه إلى باقي جسده، ونظف بالباقي بندقيته الصدأة.
عسكري آخر رأى إحدى النساء تـُعد السمن البلدي وتملأ بها الأواني الفارغة، أخذ على الفور «جمنة السمن» النائحة وأفرغها كاملة في فمه، وما هي إلا لحظات حتى خرج ذلك الأحمق إلى سطح المنزل يشرب القهوة وسط أشعة الشمس الحارقة، فخرجت السمن من «مؤخرته» في مشهد أضحك الجميع، ولكنه ضحك كالبكاء!!.
صادف وأن خيم أحد أولئك العسكر في أحد المنازل، التهم في البدء كل الدجاج في ذلك البيت والبيوت المجاورة، ثم توجه صوب دجاج القرية، ومن بعدها العزلة، وكان يأخذ «الدجاج» من الطُرقات بدون علم أصحابها، وبعصاه العريضة كان يضربها فوق رأسها، ولا يعود بها إلى حيث يقطن إلا فاقدة الوعي أو ميتة، وبعد فترة وجيزة احتاط الناس، وأرسلوا دجاجاتهم إلى القرى المجاورة، ولم تأمن دجاج المنطقة العيش بسلام إلا بانتهاء مأمورية ذلك «العُكفي الثعلب».
في حياة الحاج محمد سعيد عبدالله يوماً مشهوداً، حين كان شاباً يافعاً اختلف مع أحد «عكفة» الإمام أحمد المجبولين على المؤاذاة، أوسعه ضرباً، ثم ولى هارباً، فأتبعه ذلك «العكفي» بطلقات متقطعة من بندقيته، كادت أن تودي بحياته، استمر بالجري إلى أن وصل إلى بر الأمان، اختبأ في احدى الكهوف لفترة طويلة، وظل اسمه المطلوب يتردد على لسان كل «عُكفي» أتى أو مرّ من قريته.
قبل أن يلفظ ذلك النظام البائد أنفاسه الأخيرة، اختلف أحد مواطني قرية «الخضارب» – وهي أيضاً مجاورة لقريتي – مع أحد العسكر، تطور الخلاف إلى اشتباك بالأيدي والأقدام، لينتصر في النهاية ذاك المواطن «الغلبان»، بعد أن سارع إلى نجدته أقارب له صغار، فما كان من العسكري المـَغلوب إلا أن رمى جنبيته المهترئة، وبندقيته «الميزر» إلى مكان الحادث، وهرول ناجياً بروحه إلى مقر عامل «صبر» في «دار النصر» كي ينتصر له.
رفع العامل الجديد عريضة طويلة إلى الإمام أحمد، شرح فيها تفاصيل ما جرى، وبصورة مُبالغ فيها، وكان الإنصاف الظالم بأن أرسل الأخير «25» من عساكر القصر الأشداء، مُدججين بأسلحتهم وعتادهم، ليس لتأديب ذلك المواطن، بل لتأديب المنطقة بكاملها، وقد بادر العسكر من اليوم الأول باعتقال شقيقا المواطن «الضارب»، بعد أن هرب هذا الأخير إلى عدن، ولم يخرج الأول من السجن إلا إلى المقبرة، فيما بقي الثاني رهينة في دهاليز الأسر حتى انبلاج فجر الثورة السبتمبرية.
قال الحاج سعيد قاسم أن عساكر الإمام كانوا يأتون لأخذ ضرائب «القطاف» على الحبوب وغيرها، قبل حصادها، ويطلبون من الرعية إخراج ما هو مخزون في المدافن كزكاة لتلك التي لا زالت فوق سنابلها، وأن الرعية كانوا يستجيبون لهم وهم مكرهين، ويحملون الحبوب فوق أكتافهم، وفوق ظهور الحمير إلى المدينة، ويوردونها إلى «مدافن» الإمام في «الحدبة» أو «القاهرة»، أما «الخضروات، والفواكه، والقات» فقد كانوا يدفعون عنها ريالات «فرنصية»، حتى «المشاقر» قالها الحاج سعيد بحسرة: «كانوا يأخذون عليها بيس».
الحاج عبد الودود عبد الرحمن لديه حكاية مُتصلة، كُلف في أواخر عهد الأئمة البائد من قبل أحد كُتاب المالية بتحصيل الضرائب، وحال توريده لها رآه أحد القضاة، زجره بشده، وقال له ساخراً: «شافعي ويشتي يتعسكر»، وفوق ذلك، قالها «عبد الودود» ووجهه منكسراً وكأنه عايش ذلك الموقف بالأمس القريب: «أمر بحبسي وما خرجت من السجن إلا بوساطة من أوكلني»، ثم أضاف وقد عادت تباشير الحبور إلى وجهه: «تحققت العدالة السماوية، ووفقني الله برؤيته في الأيام الأولى لقيام الثورة المباركة، وهو في الحبس مُصفد بالأغلال، سخرت منه حينها، فكان رده: هجعنا يا ولدي…».
«العسكري» و«الرعوي» حكايا سوداء، تناثرت فصولها في ربوع اليمن الأخضر، أقصد «الاسفل»، تتشابه تتكرر، ورغم أنه ما يزال في جعبتي الكثير، اكتفي بما ذكرت من ذلك الوجع الطويل، وحصره زماناً في منتصف القرن الفائت، ومكاناً في «عزلة سيعة» بأعالي «جبل صبر» الأشم، بعيداً عن التوسع الذي قد يصيب المـُطلع بالملل.
وغرضي في الأول والأخير من كل ذلك هو التذكير، والتذكير فقط، خاصة وثمة أحداث مُتصلة، ابتدأ فيها بعض العبيد من فصيلة «الرعوي» يحنون لزمان الذل والهوان، وتقبيل الركب، والعوام كما قال «الكواكبي»: «هم قوَة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على ابقائه حياتهم، ويغري بعضهم علي بعض فيفتخرون بسياسته، واذا اسرف في اموالهم يقولون كريما، واذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما»، وفي المقابل «العسكري» البليد هو الآخر حنَّ لطبعه القديم، كأداة للانتقام والتشفي، سواء باسم «السيد» أو «الشيخ» أو «الفندم».