بلال الطيب
الإمامة مُشكلة اليمن الكبرى، هذا ما خلص إليه «أبو الأحرار» الشهيد محمد محمود الزبيري، في كتابه «الإمامة وخطرها على وحدة اليمن»، مُعرفاً إياها: بأنَّها فكرة مذهبيـة طائفية يعتنقها من القديم شطر من الشعب، وهم «الزيدية» – أي «الهـادوية» – سكان «اليمن الأعلى»، وأنَّ باقي اليمنيين لا يـدينـون بها، ولا يرون لها حقـاً في السيطرة عليهم، مُشيـراً إلى أنَّ التَحكم الإمامي خلق شعـوراً مريراً لدى الغالبية، وأبقى الانقسـام ظلاً قاتماً رهيبـاً يخيم على البـلاد.
تـعاقب على حُكـم «الإمامة الزيـديـة» عبر تـاريخها الطويـل أكثر من «100» إمام ، وما من أحدٍ من هـؤلاءِ إلا ووصل إلى الحكم على نـهـرٍ من الدمـاء، إما في حـروب عبثيـة اعتـادوا العيش في أجـوائها، أو في صراع أُسري بينَ إمـامٍ وآخـر، وقد سجـل التاريخ وجـودَ أكثر من دولة، وأكثر من إمام، في نفس الحقبة، وفي نفس المربع «الزيدي».
كانوا يقولـون أنَّهم يَحكمـون بـأمر الله، وباسم «الحق الإلهي»، في صـورة مشابهة لتلك التي حدثت في أوربا إبانَ العصورِ الوسطى، مُكررين ما قاله «جيمس الأول» ملك بريطانيا ذات يوم، بـ «أنَّ الملوك يـَمشُـون على عـَرش الله في الأرض»، وما مـن استبداد سياسي – كما قال الكواكبي – إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، والطغاة – كما قال علي الوردي – «يعبـدون الله، وينهبـون عباد الله في آن واحد».
وصف الشهيد الزبيري حكمهم بأنَّه حكمٌ مُطلق من كل القيـود، حتى من قيود الاعتبارات الدكتاتورية نفسها، وأنَّ الإمام يعتقد أنَّ سلطته من السماء، وأنَّ اللهَ هو الذي اختاره ليحكم هذا الشعب، وألهمه أن يعمل، وأن لا يعمل، وأنَّ الله هو الذي جعـل من تصرفاته شرائع تنسخ الشرائع، ودينا ينسخ الأديان.
وأضاف: «حسب الواحد منهم أن يتربع على العرش، ثم يقول للناس أنَّ الله هو الذي ولاه، أنَّ الله هو الذي أمر الناس أن يطيعوه، وأن يخدموه، وأن يقدسوه، وأن يموتوا في سبيل نصرته، وأنَّ حكمه ليس مُستمدًا من الشعب، ولا من فضل الشعب؛ بل هو منحة من السماء، إنه ظل الله، ونائب الله وخليفته»، ولا ضير أن يتحول أبناءُ الشعب إلى مُجرمين ولصوص وقطاع طرق، تباح دماؤهم، وأموالهم، وأعراضهم بمجرد أن يغضب الإمام أو يغضبوا عليه.
وقال الشهيد الزبيري مُدافعا عن أقرانه من الثوار الأوائل: «وإنَّ من الخطأ الكبير، والمنطق المقلوب أن يُظن بالذين يُنادون بالحكم الشعبي أنَّهم يُثيرون عصبية عنصرية – فالواقع أنَّهم على العكس من ذلك، يُنادون بوحدة الشعب، الوحدة الصحيحة السليمة التي تستند إلى ضمانات بقائها في المـُستقبل دون عواصف».
وأضاف: «إنَّ الذين يؤمنون بالعنصرية هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب وطبقاته، ويصرون على أن يتميزوا على الشعب، وينفردوا عنه بحقوق سياسية واجتماعية كأنهم لا يقبلون أن يكونوا في عداد أبنائه، ولا في مستوى إنساني كمستوى إنسانيته»، مُعتبراً تلك النزعة العُنصرية أخطر شيء على «العلويين» أنفسهم، وعلى مُستقبلهم.
أقـام الأئمة «الزيود» حُكمهم على جَماجم البَشر، وهيـاكل الشعارات الدينية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم، وحين صـار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصـول الدين، عمدوا على محـو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم.
أنعشوا أسوأ ما في تلك القبائل، خلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفيد دين، والتسلط رجولة، أغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ورسَّخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِـهن الحرفية، والأشغال التجارية، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» وتهامة كالذئاب المسعورة، قتلوا، ونهبوا، ودمروا جهادً في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.
تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمـُـجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة ومُتصارعة طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ»، أسوأ حقيقة وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة، أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المستقبـل له ألف سبب يبرره.
وبالعـودة إلى أدبيات الشهيد الزبيري، ومقولاته الخالدة، نجد أنَّه قد تنبأ وهو في ذروة نضاله، وقمة عطائه، بـأنَّ معارك المستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المسماة الإمامة، وأنَّ مشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربية والدولية شئنا ذلك أم أبينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.
وللخروج من هذه المـُـعضلة، وهذه اللعنة الأزلية، قال الزبيرى – ناصحاً شعبه المسكين – : «فإذا أراد اليمنيون أن يجنبوا بلادهم كل هذه الاحتمالاتِ الرهيبة، ويحتفظوا باستقلاليتها، وسيادتها، ووحدتها، وبقاء اسمها على الخريطة، فليشطبُوا على هذه الخرافة، التي تعطي لنفسها حقاً مُقدساً في الحكم لفئةٍ معينة من الناس، وليُتيحوا لكافة فئات الشعب فرصاً مُتساوية في الحكم، ذلك هو الحق الواضح المستقيم، لا نذكره تعصباً لفريق من اليمنيين دون فريق، وإنما نذكره حرصاً على وحدة الشعب بأسره، وعلى حريته واستقلاله».