تُوُفّيَ ليلةَ البارحة “الشيخُ وحيد الدين خانْ” عن عمرٍ يُناهِز خمس وتسعين عاماً، بدِهْلي عاصمة الهند، بعد أنْ وَهَب حياتَه كلَّها لنشر الدعوة الإسلامية بالحِكمة والموعظة الحسنة، والفِكر الإسلامي الصحيح، وبعد أنْ خلف ثروةً فكريةً علميةً هائلةً باللغة الأردية والهندية والإنكليزية، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان – رحمه الله تعالى – مِن أبرز علماء المسلمين في شبه القارَّة الهندية، ومن طليعة الكُتَّاب والمؤلِّفين والمفكِّرين الإسلاميين المعاصرين في العالَم الإسلامي ، فقد أثرى المكتبةَ الإسلامية المعاصرةَ بمؤلَّفاته القيّمة النافعة المتميّزة في الفكر والدعوة، والتي كلها تُعطي فهماً جيداً عميقاً للإسلام، وثقةً كاملةً للاعتماد عليه في جميع الأحوال والأوضاع.
وكان لمؤلَّفاته دورٌ كبيرٌ في تعريف الإسلام وخصائصه للطبقات المثقَّفة من المسلمين وغيرهم في الهند وخارجها.
وكان كتابُه “الإسلام يتحدَّى” يُعتبَر مِن أفضل ما أُلِّفَ في الفِكر الإسلامي في هذا العصر، وقد تَمَّتْ ترجمتُه في عِدّة لغاتٍ عالَميةٍ، وكان له أكبَرُ الأثرِ على الملايين الذين اطَّلعوا عليه منذ صدوره، فهو من خلال هذا الكتابِ الفَذِّ نجح بأسلوبٍ ساحرٍ في إثبات وجود الله – للمُلحدِين – عبر قوانين الإحصاء والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء، كذلك فهو من خلال هذا الكتابِ – كما يقول المفكِّر الإسلامي الأستاذ محمَّد عمارة – “قد لَفَت الأنظارَ إلى إسهام الإسلام فى النهضة الأوروبية الحديثة، عندما أسقط الكهانةُ والثيوقراطية والحكم بالحقّ الإلهي، ففتح أمام أوروبا الحديثة أبوابَ الديمقراطية الليبرالية، وعندما قدَّم مبدأ تسخير الطبيعة للإنسان، بديلاً عن تقديس الطبيعة، ففتح أمام العقل الأوروبي أبواب العِلم التجريبيّ، الذى كانت تحرِّمه وتجرِّمه الكهانة الكنسية لزعمها أنّ العالم دَنِسٌ، لا يجوز التجريب فيه! كما كان العقل الإغريقي التأمُّلي يترفع عنه لأنه – كالعمل اليدوي – خاصّ بالعبيد”.
أمَّا مجلّته الشهرية الشهيرة “الرِّسالة” التي أنشأها قبل خمسين عاماً، وترأَّسَ تحريرَيها حتى وفاته، تُعَدَّ من أهمّ وأبرز وأرقى المجلاَّت الإسلامية في شبة القارة الهندية، وكانت تمثِّل عن شخصيته الدعوية والفكرية، وتعبِّر عن آرائه السَّديدة، وتنشر أفكارَه النيّرة ورؤيتَه الفَذّة العميقة عن روح السَّلام في الإسلام، وتشخِّص المشكلاتِ الدينيةَ، وتحلِّل للقضايا الإسلامية، بأسلوب عصري سَلِسٍ، وقد تدرّبتُ أنا وكثيرٌ من أقراني على الكتابة من خلال هذه المجلّةِ.
وُلِدَ – رحمه الله تعالى – في 5 جمادى الآخر عام 1343هـ (الموافق: أول يناير عام 1925م) في مدينة “أعظم كَرَهْ” الواقعة في ولاية “اُتَّرْبَرْدِيْش” في شمال الهند. ودَرَس في “جامعة الإصلاح” – بأعظم كَرَهْ – جميعَ العلوم الشرعية دراسةَ إتقانٍ وتدبُّرٍ.
ثم انضمَّ إلى “الجماعة الإسلامية” (لمؤسِّسها الشيخ أبي الأعلى المودودي) وانتظم في سِلك لجنة التأليف التابعة لها، وعمل سنواتٍ معدودةً.
ثم انتقل إلى “المجمع الإسلامي العلمي” التابع لدار العلوم ندوة العلماء بلكنؤ، حيث تفرَّغ للتأليف العلمي قرابةَ ثلاث سنواتٍ، وألَّف هناك كتابَه الشهير: “الإسلام يتحدَّى”.
ثم شَغَل رئيسَ تحرير لمجلة “الجمعية” الأسبوعية لمدّة سبع سنواتٍ، والتي كانت تُصدِرها “جميعةُ علماء الإسلام في الهند” عن مكتبها الرئيسي في دهلي.
ثم أسَّس مركزاً إسلامياً بدهلي، وأنشأ منه مجلةً إسلاميةً شهريةً باسم “الرسالة” باللغة الأردية، والتي دأبت على الصدور حتى الآن، ونالت حظاً كبيراً من النجاح والقبول في جميع الأوساط الدينية والعلمية في شبه القارة الهندية، وكان من خلال هذه المجلة ينشر أفكارَه وآراءَه ورؤيتَه عن روح السَّلام في الإسلام، والمسؤولية الاجتماعية للمسلمين وللترويج للفِكر والعمل الإيجابيّ.
ألَّف – رحمه الله تعالى – العديدَ من الكتب القيّمة في الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية باللغات الثلاثة الأردية والإنكليزية والهندية، ويتجاوز عددُها عن أكثر من مئة كتابٍ، وقد تُرْجِمَ معظمُها إلى العديد من اللغات العالمية، وتَرْجَمَ منها قرابةَ أربعين كتاباً بالعربية نجلُه الفاضل الصحافي الشهير الدكتور ظفر الإسلام خانْ، ومن أهَمِّها: “الإسلام يتحدَّى”، و”رسول السَّلام”، و”تعاليم النبيّ محمَّد”، و”الدين فى مواجهة العلم”، و”الجهاد والسَّلام والعلاقات المجتمعية في الإسلام”، و”فلسطين والإنذار الإلهي”، و”أيديولوجيا السَّلام”، و”حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام”، و”قضية البعث الإسلامي”، و”حكمة الدين”، و”الإنسان القرآني”، وغيرها من الكتب .
كما ألَّف – ر حمه الله تعالى – تفسيراً مختصراً للقرآن الكريم باللغات الإنجليزية والأردية والهندية، وقام بتوزيعها بين المسلمين وغيرهم بسعر التكلفة.
وقد تحدَّث عنه العالِمُ الأديب الشيخ محمَّد المجذوب في كتابه الماتع “علماء ومفكّرون عرفتُهم”، كما تحدَّث عنه المفكّر الإسلامي الدكتور محمَّد عمارة في غير ما موضع من كتبه ومقالاته، وقال عنه في إحداها: ” لقد وَهَب حياتَه كلها للدعوة الإسلامية، وتخصَّص في إقامة الأدلة العلمية على الإيمان الديني، فبلور علم كلام جديداً مناسباً لعصر العلم، خالياً من جدل الفِرَق الإسلامية القديمة، ومتجرّداً من محاكاة الفلسفة الإغريقية القديمة، ولقد أعانته ثقافتُه العلمية الواسعة على أن يقدم في هذا الميدان أعمالاً فذّةً غير مسبوقة…”.
كانت له – رحمه الله تعالى – أفكارةٌ وآراءٌ تفرَّد بها عن الجمهور في كثير من المسائل الدينية والقضايا الفكرية، والتي أثارت جدلاً واسعاً في أوساط العلماء في شبه القارة الهندية، فوجّهوا إليه انتقاداتهم الكثيرة، إلاَّ أنَّ هذا لا يقلِّل من شخصيته العلمية وموسوعيته الفذة وعلمه الغزير وعطائه الجمّ، فالانتقاصُ من قيمة أمثالِه لا يجوز لمُجّرد تفرُّدهم ببعض الآراء والأفكار.
ولقد أكرمني الله تعالى باللقاء به والحديثِ معه غير ما مرة في بيته في حيّ “نظام الدين” بدهلي، وهو في غِنًى عن يتحدَّث عنه أمثالي، أسأل اللهَ تعالى أن يتغمَّده بواسع رحمته، ويُدخِله الفردوسَ الأعلى، ويجعله مع النبيين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالِحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً، ويُلْهِمَ أهلَه وذَوِيْه الصبرَ الجميلَ على هذا المصاب الْجَلَل والفاجعة الكبيرة. إنه وَلِيُّ ذلك والقادِرُ عليه.
…………………………………….
كتبه / سيد عبد الماجد الغَوْري
كلية دراسات القرآن والسنة
جامعة العلوم الإسلامية الماليزية.