* السفير عزالدين الاصبحي:
بقينا نأخذ تقارير المنظمات الدولية حول حالات الحقوق فى منطقتنا بكثير من الحذر. فلقد دخلنا فى دوامة العمل السياسى الموجه ضمن أكبر عمليات استقطاب بعيدا عن الحياد المطلوب الأمر الذى يجعلك تعيد النظر فى كل رقم ومع كل تقرير عن طلب مساعدات دولية أخرى علينا ( أن نرجع البصر كرتين). وسآخذ الحالة اليمنية نموذجا، فاليمن الذى يعيش حالة حرب ضروس منذ انقلاب ميليشيا الحوثى على مؤسسات الدولة الشرعية فى 21 سبتمبر 2014 وهو ينزلق ليكون مسرحا لعمليات واسعة يدفع اليمنيون كلفتها دما ودموعا وتشردا ومجاعات واسعة.
وما يزيد الصعوبة فى الحصول على دقة المعلومات حالة الإبهام التى تلف المشهد من حيث أرقام الضحايا وتضارب التقارير من حيث الاحتياجات و لا إحصاءات دقيقة منذ ست سنوات على الأقل. وما نتناقله من أرقام التردى الاقتصادى أو تردى الخدمات معظمه تخمين أو إعادة لتقارير سابقة، فالوضع الكارثى لتردى الوضع اقتصاديا ومؤسسيا ليس وليد اللحظة بل يعود لسنوات عندما انزلق اليمن ضمن الدول الأكثر فقرا.
وبقى تصنيف أداء الدولة الفاشلة مسلطا عليه منذ سنوات وجاءت الحرب لتنهى ما تبقى . وعززت سياسات ميليشيا الحوثى فى صنعاء من حالة التجويع الممنهج وضربت كل مقومات الدولة. عبر إنهاء المؤسسات ودورها وتضخيم أجهزة قمع متعددة وأجهزة جباية عجيبة تنهب قوت المواطن وتستولى على كل شيء. بدءا من الاستيلاء على الاحتياطى النقدى لليمن الذى تجاوز الخمسة مليارات دولار فى البنك المركزى اليمنى عندما كان بصنعاء تحت قبضة الميليشيا، وذلك خلال عامين فقط من الحرب منذ سبتمبر 2014 وحتى سبتمبر 2016. حيث عاد البنك المركزى إلى عدن بعد خراب مالطا كما يقول المثل وظهرت تحديات كبيرة لعودة المؤسسة النقدية وحتى تجريف كل أموال الصناديق الاستثمارية والسيادية ولم يبق شىء لا للمتقاعدين ولا للمعاقين أو أى نوع من صناديق الضمان . فقد ذهبت كلها للمجهود الحربى وفساد الميليشيا الجديدة المتعطشة للدم والمال. ثم رسخ منهج الاستيلاء على أوجه الدعم والعون الإنسانى المقدم من المنظمات الإنسانية لتكون بيد قلة من الميليشيا وضمن دعم جبهة الحرب ولم يجرؤ أحد أن يتحدث بما فى ذلك الصحافة الاستقصائية أو المنظمات الحقوقية عن نهب المساعدات الإنسانية وتحويلها إلى مصدر لتمويل الحرب وما نشر حول ذلك كان خجولا وعابرا.
وظهر تقرير الخبراء الدوليين ليؤكد حجم الكارثة التى تعيشها اليمن بسبب انقلاب الميليشيا ولا تجد تفاعلا دوليا يتناسب وهذا الضرر والعمل على إيقافه حيث بقى فقط استمرار شكوى المنظمات الدولية من عجز موازنتها ومطالبتها بمليارات أخرى مهددة العالم بأنه سيشهد أكبر مأساة إنسانية فى الأرض ولم يتحقق أى منا عن حقيقة هذه الأرقام، حيث يصاب الكل بحالة شلل ذهنى وتعجز منظمات المجتمع المدنى عن تقديم تقارير واقعية من الأرض كون هذا القطاع ضرب بقسوة هو الآخر.
ويبقى الكل يردد نفس الجمل والعبارات عن أكبر مأساة إنسانية فى العالم. واحتياج منظمات الأمم المتحدة إلى أكثر من أربعة مليارات دولار لأجل ذلك, فهذه قصة أخرى عن مآس لا يدركها المجتمع. ولكن الحقيقة الماثلة أمامنا والأكثر ألما وقسوة من وجهة نظرى هى بما تخلفه الحرب فى اليمن من تبعات.
هذه الحرب ليست الكارثة بقيامها فقط فالحرب ذاتها رغم أنها عمل متوحش لا إنسانى وبغيض لكن كارثة اليمن هى فى تبعات هذه الحرب حيث هناك تبعات مؤلمة لأجيال قادمة.
وفى أحدث تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية فى اليمن، أُفيد بأن الحرب التى أشعلتها الميليشيات الحوثية «تسببت فى وفاة ما يقدر بنحو 233 ألف شخص فى السنوات الخمس الأولى للنزاع، بما فى ذلك 131 ألفًا لأسباب غير مباشرة، مثل نقص الغذاء والخدمات الصحية والبنية التحتية»، مشيراً إلى وجود 47 جبهة مشتعلة، فى مقابل 33 جبهة العام الماضي. وجل الضحايا أطفال ونساء وجل الخراب هو للمنشآت الحيوية، وتواصل الهجمات على المرافق المحمية بموجب القانون الدولى الإنساني، بما فى ذلك المراكز الطبية.
لكن أرقام الواقع التى نعرفها بحكم الارتباط بالأرض وتعرضنا للأذى المباشر يجعلنا نقول إن الأمر أكثر من ذلك بكثير. يكفى أن نعرف رقما من برنامج تطهير اليمن من الألغام ومخلفات الحرب . يقول إن أكثر من 231 ألف لغم زرعتها ميليشيا الحوثى فى اليمن تمت إزالتها من قبل البرنامج وسيبقى ضحايا الألغام واحدة من تبعات الحرب التى سترسم فى ذاكرة اليمنيين جرحا لايندمل فالميليشيا الحوثية تزرع الألغام فى مداخل المدن والقرى والمزارع وتتعمد فى أن يصيب الضرر مدنيين عزلا بنفس طائفى يرسخ شرخا اجتماعيا لن تتعافى منه اليمن ببساطة. وتبقى صورة ملايين النازحين والذين قتلهم الجوع والخوف قبل الرصاص من أسوأ ما يعلق بالذاكرة من تبعات هذه الحرب وهذا الانقلاب. وقبح الحرب المتزايد هو فى تكريس حالة الصراع ببعده المذهبى وترسيخ واقع جغرافى مناطقى سيحتاج إلى معجزة لنتجاوزه. ومن المؤسف أن اليمنيين وبالذات النخبة السياسية والثقافية لم تعط هذا المسار حقه من المناقشة وتحصين المجتمع من استمرار الانزلاق نحو هذه التبعات التى تتزايد كل يوم، الأمر الذى أفرز مناخا غاية فى السوء.
نعم الحرب كارثة ولكن آثارها وتبعاتها أكثر كارثية عبر تدمير المجتمع قيميا وضرب النفس البشرية بتكريس سلوك الدناءة وخطاب الكراهية وسلوك الفوضى وتعزيز الجهل، ومن استمع لشهادات النساء فى صنعاء اللواتى قدمن شهاداتهن عن أقبية الاغتصاب والابتزاز الممنهج للعائلات عبر استخدام العرض لايصدق أن ذلك فى صنعاء، وان ذلك صار جزءا من جو الخوف الذى تعيشها هذه المدينة لتكرس انتقامات مريضة وتعزز حالة التشظى والعنف.
إنى على يقين بأهمية دور نخبة ترفع الصوت الآن لاستعادة مبادرات بناء المجتمع اليمنى وانقاذه من تبعات الحرب وتعاظم آثارها السلبية وليس الانزلاق إلى تقاسم مغانم فتلك مسألة عابرة.
وستبقى عملية ترميم الإنسان فى اليمن وإعادة حالة التعافى للمجتمع نفسيا وفكريا هى أكبر عقبة حقيقية عند الحديث عن إعادة الإعمار. فالخسارات المادية وإن تجاوزت مئات المليارات من الدولارات كما يُطرح تبقى حوارا مقدورا عليه لكن استعادة الإنسان السوى هى مهمتنا الشاقة.
* سفير بلادنا لدى المملكة المغربية