31.8 C
الجمهورية اليمنية
6:22 مساءً - 28 أبريل, 2024
موقع اليمن الاتحادي
Image default
اقلام حرة

مقبرة بلا شواهد!

*عز الدين سعيد الأصبحى :

صرخات اللاجيء الإفريقى التى شقت السماء فى أثناء زيارة قداسة البابا لمخيمات اللاجئين،

(نحن بشر،  لاجئون لا سجناء مجرمين ) شقت قلب كل إنسان موجوع فى هذا العالم الغارق بعنف لا آخر له ولكنها حتما لم تصل للاسف إلى حيث يصنع القرار  المهيمن على حياة البشر والمتحكم فى صنع حروبهم، حيث الدهاليز الأهم بعواصم الدول التى لم تغادرها بعد عقلية المستعمر القديم ، لذا سيكمل آلاف من اللاجئين أشهر الشتاء فى موت بطيء على هوامش حدود بعيدة فى مخيمات مظلمة باردة ومنسية.
وصف هؤلاء تلك المخيمات الممولة من حكومات تلح علينا يوميا باحترام قواعد القانون الدولى الإنسانى وحقوق الإنسان، إنها (مخيمات سجون لا أماكن إيواء آدمية تحيط بها أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة وأجهزة مسح بأشعة سينية وبوابات ممغنطة توصد ليلًا ).
البابا فرانسيس بدا مصدوما لهول  معاناة اللاجئين وفى خطاب بليغ يصف البحر المتوسط بأنه صار
( مقبرة بلا شواهد بعد أن كان بحرا للذكريات ) .
البابا واسمه بالمناسبة خورخى بيرغوغليو وينحدر هو نفسه من عائلة مهاجرين إيطاليين استقروا فى الأرجنتين، لم يكف عن الدعوة إلى استقبال آلاف الإخوة والأخوات دون أى تمييز بينهم لا على أساس الدين ولا بناء على وضع اللجوء. واعتبر أن أوروبا تواصل المماطلة فى مواجهة تدفق المهاجرين وتمزقها الأنانية القومية بدلا من أن تكون محركا للتضامن فى مسألة الهجرة.
وتلك صرخة مقدرة من الحبر الأعظم ولكن ذهب الرجل وعاد  إلى ايطاليا بدموعه مصطحبا قلة من المحظوظين وترك البقية لحدود الموت على ضفة البحر المتوسط. هذا البحر الذى غدا  فقط الصورة الأكثر وضوحا لعودة تجار العبيد والاتجار بالبشر وتكريس التوحش الذى لم يسبق له مثيل. فالبحر الجميل الذى بقى ملتقى الذكريات المشتركة لحضارات متعددة على ضفتيه، هاهو الآن حفرة للموت ومقبرة بلا شواهد، على ضفته شباب هارب بأحلامه و أكثر حزنا وهو يرى قوارب الموت تعيد ذكريات تجار العبيد، ويدرك حالة الانهيار الحضارى التى تصيب العالم، فقد  وضعت قضية المهاجرين العالم فى مأزق أخلاقى لا يمكن غفرانه حتى بعد صلوات الاعتراف من الحبر الأعظم.
حيث كشفت قضايا المهاجرين الفارين نحو الجنة فى أوروبا هول روح العنصرية المتفشية ، وكارثية الجرائم التى ارتكبت بحق الإنسانية بسبب تعليمات النظم الاقتصادية، وجشع الاستعمار الحديث الأكثر توحشا، حتى من مرحلة الاستعمار العسكرى الأوروبى المباشر.
نعم هرب هؤلاء اللاجئون من نار أنظمة فاشلة فى بلدانهم، ومن حروب دامية، و مأزق اقتصادى حاصرهم  بالجوع والخوف. كل ذلك هو نصف الحقيقة التى لا يجرؤ أحد فى عواصم صنع القرار وتنامى التوحش الاقتصادى والاحتكار المعرفى على أن يكمل النصف الآخر منها، والتى تتمثل بسياسات ممنهجة عملت على إفقار هذه الدول، والأهم تعميق فجوة من التخلف الذى لا يمكن تصور تبعاته، كل ذلك يتم تحت وطأة روح من اليمين المتطرف المتنامى ، والذى كان ولا يزال يرى أنه يمكن لهذا العالم أن يستقر إذا سيطر فقط جزء من سكان العالم  يمثلون  قلة لا تذكر  على مفاتيح النجاح والمعرفة وترك بقية الكوكب  لدوائر الجهل والعنف، حتى تتعاظم ثروات شركات الأسلحة أكثر، وتتضخم بنوك ومصارف على حساب  بقية العالم.
وهى نفس نظرة وتجارب الفشل التى مرت بها الإمبراطوريات السابقة، وكأن التاريخ يعيد مهازله، والتى لا تخلف إلا ذكريات الألم وثارات تبقى مؤججة لخطاب كراهية متبادلة. لا أحب أن أكون فى موقف الواعظ ولكن لنناقش الأمر من زاوية القانون، والمصالح المشتركة بين الشعوب، فما يجرى من وضع للمهاجرين على مختلف الحدود، من أقصى أوروبا و حتى  شواطيء أستراليا ونيوزيلندا، إلى صحارى المكسيك وأمريكا، كل ذلك وصمة عار فى جبين الحضارة الإنسانية، التى تنهار أخلاقيا كل يوم مع تنامى الاتجار بالبشر والذى لا يقل بشاعة عن وحشية سفن العبيد، فى القرون السابقة بل أكثر سوءا. فهذه الحرب التى تستخدم اللاجئين والمهاجرين كسلاح هى الأسوأ.
فاستخدام المهاجرين واللاجئين كسلاح، مع استمرار منهج إفقار بلدانهم وإشعال حروب الفتنة فيها وتشجيع قلة التطرف والفساد، هى جرائم مركبة تحتاج إلى تطوير فى مفاهيم القوانين لتوصيفها وتعريف متجدد لمعنى الجرائم التى صارت تتطور مظاهرها كل يوم. ويبقى السؤال  حول: ماذا لو كانت بلدان هؤلاء الفارين بجلدهم بلدانا مستقرة؟، ولم تنهب من قبل شركاء دوليين  وتحالفاتهم  الوطنية؟.
وماذا لو كان العالم يتقاسم المعرفة بصدق؟ ويعزز من السلام الذى يحتاج إلى تنمية، هل كان هؤلاء سيغادرون قراهم البعيدة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟
ذاك سؤال معروفة إجابته ولكنه يفتح آفاقا لتساؤلات لا تنتهى عن قواعد القانون الدولى،؟ والتزامات العالم حيال هؤلاء حسب مبادئ حقوق الإنسان التى نعدها أبرز سمات هذا القرن؟ كيف تدمرت تلك المبادئ وسط موج البحر المتوسط لتصبح مجرد صرخات فى بحر من الظلمات ومقبرة بلا شواهد، كيف سيحكى التاريخ؟  ويكتب عن غرق قيم الإنسان فى هذا العصر مع غرق قوارب الموت التى أغلقت أمامها  شواطئ دول ما انفكت توجه للعالم نصائح وتعليمات التسامح والمحبة، والكرامة الإنسانية والعيش المشترك، لنجد أن الكرامة تغرق فى عمق القهر، ولا مشترك بين الشعوب إلا بحر تحول إلى مقبرة، ومدفن لوجع لا تطيقه الأرض فتركته فى قعر بحر صارت مياهه حتما فيض دموع لا أكثر .

* سفير الجمهورية اليمنية بالمغرب

نشر في جريدة الأهرام المصرية

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد