توفيق السامعي:
سبأ مملكة في الشمال!
في برنامج “على خطى العرب” الذي يقدمه الدكتور عيد اليحيى على قناة العربية، يقول: “ذهب بعض المؤرخين إلى أن ملكة سبأ المذكورة في القرآن إنما كانت مملكتها وعاصمتها في دومة الجندل شمال المملكة العربية السعودية”، وذلك جرياً على آراء بعض الباحثين الذين قالوا بمكان مملكة سبأ في شمال الجزيرة العربية، وهو رأي قديم لهومل – كما أسلفنا- وتراجع عنه بعد ذلك. ويبررون ذلك أنه لم تكن هناك أسماء لملكات يمنيات، بينما كان هناك أسماء لملكات عربيات في دومة الجندل وما جاورها من البلاد العربية الشمالية مثل (سمسي، تلخونو، زبيبي) كما في النقوش الأشورية في عهد شلمنصر وسرجون وأسرحدون( ). ولكن مهما قيل عن هذه الملكات وهذا المُلك فلم يكن يرقى بشهرته أو قوته وعظمته إلى مستوى مُلْك سبأ أو تدمر اللتين كانتا أعظم مُلك عربي في التاريخ.
صحيح لم تذكر النقوش اليمنية حتى الآن ملكات لسبأ شهيرات، لكن مع كثرة النقوش المهربة نجد نقصاً كثيراً في المعلومات، فضلاً عن أنه لم تجر أبحاث ميدانية مؤسساتية حتى الآن تكشف النقاب عن ملكات أخريات.
لقيت تمثالاً باسم ملكة من ملوك اليمن لدى صديق كان يحتفظ به للبيع ولم تتم أية دراسة عليه، ومنذ الوهلة الأولى لاطلاعي عليه تبين لي أنه تجسيد لشكل ملكة اسمها (أ و س ن/ أوسان)، غير أنه غيبه تماماً، وكم من أمثاله من فعل ذلك، فهم يعدون تجارة الآثار مربحة للغاية. الشاهد في هذا القول: إنه توجد ملكات يمنيات لكن لم يتم الاطلاع عليهن، وهو ما يذهب لترجيح ملكة سبأ، ومن يدر عند من يكون مخبأ تمثال لملكة سبأ!
يذهب بعض الباحثين والمؤرخين إلى أن ملكة سبأ ليست تلك التي في اليمن جنوب الجزيرة بل هي ملكة الشمال في معين مصران، “ويستدلون على ذلك بعثور المنقبين على أسماء ملكات عربيات، وعلى إسم ملك عربي هو (يثع أمر) السبئي في النصوص الآشورية في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على أسماء ملكة في الكتابات العربية الجنوبية، ثم صعوبة تصور زيارة ملكة عربية من الجنوب إلى سليمان، وتعجبها من بلاطه وحاشيته وعظمة ملكه، مع أن بلاط (أورشليم) يجب أن لا يكون شيئاً بالقياس إلى بلاط ملوك سبأ، ولهذا لا يمكن أن تكون هذه المملكة في نظر هذه الجماعة من علماء التوراة إلا ملكة مملكة عربية صغيرة لم تكن بعيدة عن عاصمة ملك سليمان، قد تكون في جبل شمر أو في نجد أو الحجاز”( ).
كما يذهبون أيضاً إلى شبهة أخرى أو تحليل آخر وهو أن الهدهد لم يكن باستطاعته أن يقطع كل تلك المسافة من الشام إلى اليمن في سرعة وجيزة، بل إنه ذهب إلى مملكة جوار مملكة سليمان وقد تكون “معان”/”معين مصران”، أو دومة الجندل خاصة وأن “معان” كانت في فترة ما إحدى محطات ومدن التجارة السبئية وهي إحدى القرى الظاهرة التي ذكرها القرآن ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾( )، ومن هنا كان استنتاج هذا الرأي القائل بأنها مملكة عربية شمالية، وكذلك كون الملكة امرأة فلا يمكنها قطع كل تلك المسافة من الجنوب إلى الشام.
ولتفنيد هذا الرأي فإن باستطاعة الطير اجتياز كل تلك المسافة كما تفعل الطيور المهاجرة غالباً والتي تقطع المسافات من قارة إلى قارة عبر آلاف الأميال، فما بالنا من الشام إلى اليمن، خاصة وأن مسافة الطيران الجوية لا تقاس بمسافات السير الأرضية للحيوانات أو أقدام الإنسان؛ فما يقطعه الإنسان عبر ركوب الخيل أو الجمال في يوم يمكن للطائر أن يقطعه في ساعة أو أقل، وما يقطعه الإنسان في شهر يقطعه الطير في يوم كامل أو يومين؛ لأن الطير في السماء لا تعيقه عوائق من جبال ووعورة الطريق أو أية معيقات أخرى. وقد يعيق الطائر مثلاً مطر أو جوارح، لكن مع ذلك قد يكون قليلاً وتستمر رحلة الطيران.
أما مدينة معان، أو معين مصران فلم تكشف الآثار عن قصور عظيمة بعظمة قصور سبأ أو عرش مثل عرش سبأ، ولا بلغت شهرتها بالتأثير الحضاري والسياسي ما بلغته سبأ، وما دوّن تاريخياً عنها، فضلاً عن أنها كانت محطة تجارية لا أكثر، والمرجح – بحسب ذكر النقوش لها- فإنها أنشئت في فترة لاحقة عن فترة ملكة سبأ.
وبينما تقول كل الآراء اليوم إنه لا يوجد أي نص يذكر اسم ملكة سبأ سواء “بلقيس” أو أي اسم آخر كملكة في اليمن، وهو صحيح حتى الآن فقط، لكن القرآن الكريم يثبت أن الملكة يمنية وسبأية، بغض النظر عن اسمها الحقيقي.
فلو أن النص القرآني الخاص بمملكة “سبأ” مع الملكة التي قابلت سليمان الوارد في سورة النمل كان هو النص الوحيد ولم يكن له تفسيرات مشابهة ولا ورود في سورة أخرى بأحداث أخرى أكثر تفصيلاً كما هو الحال في سورة “سبأ” والتي أسميت السورة كلها باسمها لكانت الشبهة والغموض تم هنا، أما وإن القصة الأخرى في سورة سبأ كانت أكثر تحديداً وتوضيحاً باختصاصها بسيل العرم وبالسد، وبالتجارة، وبالمحطات (القرى الظاهرة)، وبالجنان، فإنه يزيل كل غموض.
ففي سورة النمل ذكر البلاد والمرأة ومُلكها وعبادتَها وعرشَها وقومها ولقاءها سليمان، وكلها تنطبق على اليمن، وأفرد لبلادها سورة سميت سورة “سبأ” والتي ذكر فيها سيل العرم وهي قصة مشهورة.
كما ذكر تفاصيل كثيرة لتلك المملكة وتجارتها بين اليمن والشام، وهو ما ينطبق تاريخياً على مملكة سبأ، مثل المدن والمحطات التي بنتها الدولة في طريق التجارة كاستراحات لمبيت القوافل ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾( )، وكذلك السد والسيل واستبدال الجنان وتباعد الأسفار ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾( )، فهل عند أصحاب هذا الرأي كانت سبأ مملكتين مختلفتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب؟!
فحتى لو لم نعتمد طريقة تفسير القرآن للقرآن في مختلف السور والمواضع، علينا أن ندقق في الصفات والأماكن، والأحداث، والأسماء، وغيرها للوصول إلى نتيجة، والنتيجة الواضحة وضوح الشمس التي لا تقبل المساومة هي أن مملكة سبأ في الجنوب.