توفيق السامعي :
الروِّية والرصانة والتأني
لما كانت ملكة سبأ قوية لشعب قوي، ودعاها نبي الله سليمان للإسلام، كان من الطبيعي أن يكون في نفسها شيء من عدم التصديق، كعادة كل قوم مع الأنبياء، فضلاً أن تكون ملكة عظيمة، ليس من السهل على ملكة التسليم بالنبوة أو الملك لتصير تابعة لملك آخر، وتنهي مملكتها في أول أزمة عارضة أو غمضة عين، مع امتلاكها كل أسباب القوة وزمام المبادرة والاستقلالية، وكان لا بد لسليمان أن يبين لها معجزة من المعجزات التي تبهرها وتجعلها تؤمن معه كعادة الأنبياء مع أقوامهم. فكانت معجزات سليمان: الصرح العظيم، والإتيان بالعرش من أرض سبأ، واستعراضه أمامها، وكذلك استعراض أبهة المُلك ومقوماته من الجن والإنس والطير والوحش والحيوانات، والبنايات الضخمة من القوارير وغيرها.
فالعرش هنا هو أحد أهم العناصر الأساسية في القصة، به تم الابتداء، وبه يتم الانتهاء، ويأتي بالترتيب الثاني بعد أمر ديانة الملكة، لذلك سنجد موضوع ديانة الملكة في كل منعطف في القصة والتركيز عليه، ثم يأتي العرش تالياً.
وكان الحديث عن العرش محورياً بين الشخصيتين الأساسيتين للقصة؛ سليمان وملكة سبأ، وجعل العرش أداة وركيزة الحوار والوصول إلى الغاية النهائية والحدث الملحمي وحبكته.
وهنا استخدم التنكير للعرش، وهو الاهتمام به، للوصول إلى عقلية وهدف الملكة وما وراء هذا الهدف، وهو الحجة والإقناع بالبرهان. ولو أن التنكير في العرش يعني تغيير معالمه وملامحه بقصد التضليل والإيهام لما اهتدت ملكة سبأ إلى معرفته، وهنا تفقد المعجزة معناها وخصوصيتها، ولكن التنكير هنا معناه التفقد والاهتمام بسبب نقله من مكانه البعيد لا بد أنه سيحدث به شيء من الخلل، فأراد سليمان تفقده وإصلاحه بذلك اللفظ نظراً لنقله من مسافات بعيدة، كما في بعض لغة اليمن: ناكَرَه وتنكره بمعنى: اهتم به وتفقده.. كما هي في المعافرية القديمة، ولا شك أن لها امتدادات أخرى في عامة النقوش اليمنية قد تتكشف يوماً ما مع مواصلة الأبحاث الميدانية. ولذلك اهتدت إلى معرفته على الفور. صحيح أن إجابتها لم تكن بالجزم والتوكيد كأن تقول مثلاً: “إنه هو”، ولكن قالت بنوع من التشبيه والتماثل والتراخي وعدم الانبهار: “كأنه هو”، وهذا برأيي يعود إلى أن لغة السياسة المستعملة في الأساس لم تكن الجزم اليقيني، حتى لا تظهر انبهارها السريع بفعل وقدرة سليمان وملكه فتظهر بمظهر الخاضعة الذليلة؛ فلغة السياسيين وتخاطبهم غالباً في الأشياء، منذ القدم وحتى اليوم، يغلب عليها عدم التوكيد، بل الإبقاء على بعض الإيهام في الأشياء كخط رجعة، وترك الباب موارباً لمعلومات أخرى.
قد يقول قائل: سليمان -عليه السلام- كان متعمداً التنكير الذي هو بمعنى التضليل الجزئي بدليل ﴿ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون﴾، وهنا يكون المعنى: تهتدي لمعرفة العرش، وهذا واضح من سياق الآية التي تتحدث عن العرش فقط، ولو كان للتضليل فسيصعب عليها التعرف على العرش، ولم يحصل سليمان مبتغاه من الإعجاز والإبهار، أما الاهتداء للإسلام والتوحيد فكل ما قام به سليمان هو لاستعراض هذا الإعجاز والإبهار لإثبات نبوته وحملها على الإسلام دون إكراه، ولكن لو أراد التضليل لما سألها قطعاً، ولترك لها حرية المعرفة والبحث عن ماهية العرش؛ حيث كان التركيز على العرش منذ البداية بسبب تميز مُلكها به وعظمته، وبه بدأ الهدهد معلوماته الخبرية عن الملكة مستعظماً عرشها وأبهة مُلْكِها (ولها عرش عظيم)، وربما دلالة انبهار الهدهد بالعرش واستعظامه أكبر مما عند سليمان، وإلا كان قال له عرش مماثل لعرشه مثلاً أو قريب منه، ولكنه وصفه بالعظمة، ما يعني أنه أعظم من عرش سليمان، ومما أثار فضول سليمان نفسه!
لقد كان لملكة سبأ مبنيان ومعبدان، أو لنقل: قصر ومعبد، ولكن ما ورد في القصة كان التركيز على العرش كرمز للمُلك العظيم ولقصر المملكة الباهر، فهل هذا يعني أن أحد مبنيي سبأ سواء كان المعبد أو القصر غير موجود؟ أم إن العرش كان رمزاً للقصر وفعل العبادة للشمس كان رمزاً للمعبد (أوام)؟!
هنا يبرز سؤال آخر أيضاً: هل إن معبد “أوام” من تشييد ملكة سبأ حاولت أن تقلد به هيكل سليمان أو صرحه الذي رأته فبهرها به، ويمكن أن تكون أول إشارة لتاريخ بناء المعبد كون بانيه لم يعرف حتى اليوم، خاصة وهناك نقوش كثيرة لملوك كثر وفترات زمنية مختلفة في المعبد ذاته؟ لكن الصحيح لم ترد أية إشارة لباني العرش الأول ولا المعبد، ولو كان من بناء ملكة سبأ لوجد المنقبون أدلة على ذلك، أو إشارة إلى ذلك التأسيس، وهذا دليل على أن العرش والمعبد شيدا قبل عهد ملكة سبأ، لكن ما يدرينا أن الباحثين والمنقبين الأجانب لم ينهبوا ويصادروا أهم المعلومات التي يمكن أن تفيد الأجيال في دراسة المعبد وغرض إنشائه وتاريخه ومنشئه الأول، كما نهبوا غيرها من المعلومات واللقى الأثرية الأهم، والتي لم تتضح إلا من خلال تسريب بعض النقوش والقطع الأثرية المنهوبة والمتميزة والنادرة والمعروضة في المزادات العلنية العالمية؟!
هنا يذكر جواد علي أن عرش ملكة سبأ أعظم أبهة وقدراً من عرش سليمان.
وبما أن المؤرخين ذكروا أن أول مكرب وحاكم ظهر في أول النقوش اليمنية حتى الآن هو المكرب سمهعلي ينوف في القرن التاسع قبل الميلاد، وبه عرف المكاربة لأول الأمر، فإن هذا المكرب جاء في وقت كان فيه معبد أوام قائماً بذاته، وتذكر بعض النقوش أنه إنما قام بتسوير المعبد وأضاف نصباً في داخله، وهذه إشارة مهمة إلى أن المعبد يعود تاريخه إلى ما قبله من الملوك أو المكاربة، كما فعل في زيادة سد “رحاب” مارب من مساقي وأنقاب، وهو الذي لم يكن من إنشائه أساساً ونُسب إليه، فهل سنكتشف مع الزمن أن هذا المعبد كان من بناء ملكة سبأ، خاصة وكل شيء هناك ينسب إليها باسمها الأسطوري غير المؤكد (بلقيس)، وكذلك يحمل كثيراً من مواصفات صرح سليمان؟!
إذا كان هذا المعبد من بناء ملكة سبأ فهل يعني أنها استعانت بعمال سليمان من الشياطين بعد اتباعها ديانته وصارت بينهما علاقة وطيدة، بدليل أن القرآن الكريم أشار إلى وظائفهم الخاصة له ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ﴾( )، خاصة وأن تلك العمدان الكبيرة المنصوبة في معبد أوام ومعبد برآن (عرش بلقيس اليوم)، وكذلك مسلات أكسوم، تعتبر من العجائب الكبرى والتي لا يقوى على نصبها إلا قوة خارقة أو جيوش من العمال المتعاضدين يقوي بعضهم بعضاً، ويؤازر بعضهم بعضاً وبكثير من الإمكانات والآلات الكبيرة والدقيقة؟!
لكن لا توجد أبسط الإشارات من نقوش إلى ذلك، خاصة إذا ما علمنا أن السبئيين كانوا لا يتركون شاردة ولا واردة من أعمالهم إلا ودونوها، فضلاً عن أن يكون هذا الإنشاء من الضخامة بمكان كحجم معبد “أوام” أو معبد “برآن”.
فمسلات أكسوم يرجعها الباحثون إلى مراحل متأخرة جداً عن عهد ملكة سبأ؛ فهذه المسلات تعود للقرون الأولى من الميلاد، بينما أعمدة “أوام” و”برآن” (عرش بلقيس) تعود إلى ما قبل القرن العاشر ق.م، وربما كانت مسلات أكسوم تقليداً لأعمدة معبدي “أوام” و”برآن” لا أكثر.
من يدقق في تلك الأعمدة سواء من الحجارة البلقية العادية أو من المرمر الشفاف ستبهره تلك الدقة في القياسات، وكذلك الصقل المتميز مع عدم وجود أية آلات قطع أو قياسات دقيقة في تلك الحقب الزمنية، أو آلات صقل وتلميع، ومع ذلك تجدها متناهية الدقة والروعة والجمال حتى في زوايا قوائمها وليس فقط في القياسات، وكيف تم تثبيتها من آلاف السنين وحتى اليوم دون أن تتأثر بالعوامل الطبيعية!
لو لم يكن العرش وصرح ملكة سبأ غير موجودين حتى عهدها لما ذكره الهدهد لسليمان من ناحية، ولكان جزءاً غائباً في القصة؛ فالقصة ركزت منذ البداية على العرش، وهو كناية عن الملك العظيم، وليس لكرسي المُلك، وهذا يبعدنا عن افتراض أن هذا العرش والمعبد والقصر من تشييد ملكة سبأ، فضلاً عن أنه يعود للقرن العاشر قبل الميلاد، بل جاءت الملكة على عرش وقصر قائم بذاته من قبلها، مما يعني أن بناءه متقدم قبل القرن العاشر قبل الميلاد، ولو كان من بنائها بعد اعتناقها اليهودية لوجدنا اسمها وإشارات لدينها وأعمالها، كما هو حال ملوك آخرين، وهذا يعطينا بعداً تاريخياً وزمنياً موغلاً في القدم، وأن هذا المُلك تراكمي مع الزمن حتى صار ذروته في عهد هذه الملكة، بدليل قول أقوالها (الأقيال): ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾( )، فالقوة هنا كناية عن الجيش الكبير القوي، والبأس الشديد هي الشجاعة والإقدام وعدم تهيب الحروب.