23.9 C
الجمهورية اليمنية
11:05 مساءً - 21 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

في رثاء علي عبد الله صالح (١)

“تقدر توصل لتميم وتخبره باللي حصل” سألتني داليا محمد، أشهر المناضلات في تعز. تميم، الذي قنصه جيش صالح في تعز، هو ابن شقيقتها وهي ابنة عمتي. كانت داليا قد فقدت عينها في مظاهرة ضد صالح. أما ابن عمي “عارف” فبكى طويلاً عندما أخذ قناصة صالح روح ولده ذي ١٨ عاماً. لكن عارف استمر في بكائه منذ وصلته نتيجة الثانوية العامة لولده القتيل. وكانت أمي تبتهل وهي تكلمني على الهاتف: الله يحرق قلبك يا علي عبدالله صالح. وكنت أقف عاجزاً أمامها، هي المحاصرة والخائفة وآلاف القذائف تختطف الأرواح عن يمينها وشمالها. كنت أواسيها بكلمة واحدة ظللت أرددها منذ ٢٠١٤: ربنا كبير.

في يوم، ٢٠١٤، عُثر على جثة حوالي ٣٠٠ شاب يمني قتلهم الحرس الجمهوري وهو يجتاح صنعاء مع الحوثيين. راح الحوثيين يبحثون عن خصومه السياسيين ويضعونهم في مخازن السلاح. تمكن الطيران من قتل عشرات الصحفيين والسياسيين الذين قيدهم صالح في معسكراته. وقتل عبد الله قابل. يوم قتل عبد الله قابل مقيداً في مخازن صالح كنت أتأمل صورته، أقرأ آخر رسالة منه، وأواسي نفسي: ربنا كبير يا عبد الله، ربنا كبير.

حل الموت والخراب في الأرجاء. في البدء انطلقت ثلاثة ألوية عسكرية وأشعلت النار في بيوت أهل البيضاء المساكين، ثم استمرت بعد ذلك. كان يفعل كل شيء مختبئاً في ثياب الحوثيين. ولم يمض سوى نصف عام حتى كانت أغلب أهل البيضاء، ومن قبلهم الضالع، ينامون في الجبال. الصورة نفسها كانت تخرج من الوازعية. في مرة واحدة فر حوالي خمسة آلاف قروي إلى الجبال دفعة هرباً من مدفعية صالح الثقيلة. مات كثيرون في الطرقات، أطفال وكبار سن. كنت أطلع على التقارير القادمة من هناك، وأجري مكالمات ولا أصدق. وكنت أرد بكلمة واحدة: ربنا كبير.

لم يتوقف عن القتل، ولا يندم سوى على الذين لم يتمكن من قتلهم. في ٢٠١٠ صنعت وثيقة ويكيليكس التي قمت بترجمتها لصحيفة المصدر صدمة مدوية. كانت الوثيقة، التي كتبتها السفارة الأميركية، تقول إن صالح أعطى المقاتلات السعودية إحداثيات قيادات الجيش اليمني قائلاً إنها مواقع للحوثيين، ولولا ترددالطيارين السعودين لوقعت كارثة.

وفي العام ٢٠١١ أرسل وساطة إلى منزل صادق الأحمر ثم ضرب الوساطة بالصواريخ. وبعد جمعة الكرامة خرج صالح والدم يسيل من بين شفتيه، وبصق في وجوه القتلى والعالم. في ذلك اليوم، الكرامة، كان المراسل الدولي زيدان يقول لقناة الجزيرة: نقلتُ من كل مكان، ومن أفغانستان، مثل بشاعة ما يحدث الآن لم أرَ من قبل. كان صالح يقتل، ويداوي القتل بالقتل.

استمر يقاتل الحوثيين منذ ٢٠٠٤. الرجل الذي كان جواره، عبد القادر باجمال، قدم شهادة مروعة عندما سأله أمين عام رئاسة الوزراء عن سبب انتصارات الحوثيين على الجيش: لن يهدأ بال صالح حتى يرى الحوثيين في الفرقة الأولى المدرعة. نشرت هذا في مقال كتبته قبل أعوام، وكانت وثيقة كتبتها السفارة الأميركية تقول إن صالح يريد من حرب الحوثي إهلاك قادة الجيش وحسب، إما عن طريق سوقهم إلى الموت أو غمس أياديهم في الدماء. وأنه لم يكن يسعى لأي انتصار ضد الحوثيين.

أخبرني أبي أنه كان يشاهد نساء يصرخن من الشبابيك: الله يقتله من قتلك. كنت أقف إلى جانب “وايت ماء”، قال أبي، وكانت أصواتهن أعلى من أصوات الماطور. أخذت القشعريرة تسري في كل جسدي، قال أبي. كان يتحدث عن الساعات التي تلت مقتل الحمدي.

خاض صالح في بركة دماء كبيرة، وشرب من شرايين شعبه. ومنذ طفولته كان شراً محضاً. فقد أدلى لواء عسكري بشهادة تقول: كان صالح أول شخص يُطلب منه حلف اليمين عندما تحدث سرقة في القرية.

عاش مشطوراً، مفككاً، متناقضاً في أعماقه، يرى اليمن من خلال ناظور بندقيته. وعندما صار كبيراً لم يعد أحد يجرؤ على أن يطلب منه اليمين.

ودارت الأيام، دورة دورة. بقي مدرب الثعابين يلعب بحياته، ويراقصها. في المسلسل الكرتوني “صحارى” تلدغ أفعى مدربها في الختام، بعد أن لدغت خصومه في كل حلقات المسلسل.

اللحظة التي قتل فيها صالح كانت مروعة. فقد قال دعا قبلها إلى هبة شعبية ضد الحوثيين “بعد أن ارتكبوا تلك الحماقة”، قال صالح. كان قد شرح الحماقة بكلمات قليلة: محاصرة منازل أسرته. كانت تلك هي الجمهورية التي تعنيه دائماً.

لن يفلت من التاريخ، ولن نسمح له بالإفلات من التاريخ

يتبع ..

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد