بلال الطيب :
المعركة لم تكن معركة الجيش وحده، بل معركة الشعب كُله، وفي مشهد تلاحمي لا يتكرر، وقف الطالب إلى جانب الفلاح، والشيخ إلى جانب العامل، وانبثقت من روح تلك المقاومة نفوس جبارة، قهرت الحصار من الداخل، وتغلبت عليه حتى لحظات الحسم، انتكست حينها تحالفات الملكيين ومرتزقتهم، بدأ حصار الجمهورية يشملهم، أعادوا النظر في واقعهم المأزوم، وغادروا.
المشاركة الشعبية في تلك الملحمة برزت من خلال «المقاومة الشعبية»، التي أعلن عن تشكيلها في «11نوفمبر1967»، بعد مؤتمر شعبي أعد لذلك، ومباركة حكومية جعلت المقدم غالب الشراعي على رأس قيادتها، فيما أسفرت انتخابات ذلك المؤتمر، عن اختيار عشرة أعضاء من الاتجاهات المختلفة لمجلس قيادتها، كان أبرزهم عمر الجاوي، الذي اسندت إليه مهام الأمانة العامة، إلى جانب دوره الإعلامي الذائع الصيت.
بإعلان تشكيل «المقاومة الشعبية»، فـُتحت آفاقاً رحبة أمام قطاعات واسعة من الجماهير، وانخرط في صفوفها قيادات وأعضاء من القوى الوطنية، بمختلف مكوناتها الحزبية، وعدد من القيادات العسكرية، والشخصيات الوطنية المُستقلة، وحتم من وجودها أكثر ضآلة أعداد أفراد القوات المسلحة والأمن.
تم توزيع أفراد «المقاومة الشعبية» إلى أربعة قطاعات: «قطاع الطلاب، وقطاع العمال، وقطاع الموظفين، وقطاع التجار»، وفي ساحة مدرسة عبد الناصر، «ميدان الظرافي» حالياً، تم تدريب الأعضاء، ومن ثم تسليحهم وتوزيعهم على جميع مناطق العاصمة.
معظم المهام التي نفذتها «المقاومة الشعبية» لم تكن قد رسمت مُسبقاً من قبل القيادة، وإنما فرضتها الأحداث وتطوراتها، وعندما اشتد الحصار شوهد الكثير من عناصرها يقاتلون إلى جانب أبناء القوات المسلحة والأمن، في أكثر من موقع، ويمدون المقاتلين بـ «الماء، والغذاء، والدواء»، وسقط أثناء قيامهم بذلك، الكثير منهم بين شهيد وجريح.
لم يكن لرجال الشرطة وجود، ذهب جلهم إلى الجبهات، وكان وزير الداخلية مجرد ضابط مع حارسين؛ لا يؤثرون مُطلقاً في قضايا الأمن، تولى أفراد «المقاومة الشعبية» هذه المهمة باقتدار وجدارة، حافظوا على الأمن، وحرسوا المنشآت الاقتصادية والعسكرية، وحموا الممتلكات الخاصة من النهب والسلب، ووزعوا المواد التموينية على المحتاجين، وراقبوا ولاحقوا التجار الذين يحاولون إخفاء السلع، أو المضاربة بها، وساعدوا المواطنين على إقامة المتارس الوقائية من الدانات، واكثر من مرة شوهد أعضاءها يهرعون إلى الأماكن التي كانت تتعرض للقصف، للقيام بعمليات الإخلاء، وإسعاف المصابين.
كانت صنعاء قادرة على إطعام نفسها، وتأمين أسوارها، تجاوز عدد سكانها الـ «100,000» نسمة، ألفوا جميعهم أصوات المدافع، وتعايشوا معها، وكان كل عضو في «المقاومة الشعبية» مسئولاً عن الحارة التي يَقطن فيها، كسبوا السكان، ومنعوا التحركات الليلية إلا بكلمة «سر الليل»، راقبوا البيوت التي يشاع أن إشارة ليلية أو أصوات لاسلكية تنطلق منها، تعاملوا بحذر مع الطابور الخامس، وقد بلغ عدد المُعتقلين احتياطياً في اليوم الأول للحصار أكثر من «1000» معتقل.
يقول عمر الجاوي: «من أجل محاصرة الذين يحاصروننا، لابد من كسب السكان بوضعهم الجديد، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة احتياجاتهم الضرورية، وباستثناء العائلات العريقة في صنعاء والتي وهبها الله بسطة في الرزق، انحازت المدينة كلها في الأسبوعين الأولين من الحصار إلى صف الفقراء، الذين لا يملكون قوت يومهم الضروري، وبرزت آنذاك بعض المشاكل والقضايا التي تحتاجُ إلى حلول سريعة، وعرف المثقفون ولأول مرة، أنّهم يجهلون طبيعة الحياة اليومية في مدينة صنعاء».
وينقل لنا عبد الله أحمد السنباني، أحد أعضاء «المقاومة الشعبية»، صورة مغايرة بعض الشيء عما ذهب إليه «الجاوي»، بقوله: «كان الواحد منا يعرف الكثير عمن يسكن في تلك الحارات أو الشوارع، وكنا نلاحظ أن من يدافع عن صنعاء أغلبهم ليسوا منها، وكان غالبية السكان يظهرون التجاوب بحكم القوة الموجودة، ويضعون لأنفسهم نوعاً من المرونة، ولا يبرز منهم إلا القليل».
«حاميها حراميها»؛ إشاعات مُغرضة بدأت تلوكها بعض الألسن، تهكماً على أفراد «المقاومة الشعبية»، إلا أنها تلاشت أمام قيام أولئك الأبطال بمهامهم على أكمل وجه، دون الالتفات لهذه الأراجيف، التي بدأ بإثارتها «المرجفون في المدينة»، مع التركيز على توعية الجماهير وتحصينها ضد هكذا شائعات، والدفع بهم إلى الانضمام لصفوفها، وصفوف القوات المسلحة والأمن.
كان للمرأة اليمنية دور فاعل في تلك الملحمة، وقد انضممن عاملات مصنع الغزل والنسيج إلى صفوف «المقاومة الشعبية»، وحملن السلاح، وشاركن في بعض العمليات البسيطة، إلى جانب عدد كبير من الموظفين، الذين كانوا يعملون في المؤسسات الحكومية والمختلطة.
كما كان لأم الشهيد اللقية دور لا ينسى، واضبت على زيارة النساء في تجمعاتهن، وعملت على توعيتهن، وتعريفهن بالثورة وأهدافها، والإمامة ومخاطرها، وبثت نداها بلكنتها الدارجة عبر أثير إذاعة صنعاء، وكان تعبيرها صادقاً أثر في كثيرين، فيما صداه لم يفارق مخيلة من عايشوا تلك اللحظة.
أدهشت «المقاومة الشعبية» الجميع، فتساجلوا الشهادات لها بالاستبسال، واقتحام الغمار، والالتحام مع الموت، وجهاً لوجه، قال أحد شيوخ الطرف الآخر: «كنا نطمع في البنادق التي تطول قامات أولئك الشبان، الذين تجمعوا من المدارس والمطاعم إلى الخنادق، وانصبوا إلى المعركة من جميع جهات اليمن، وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، فكانوا يحصدوننا قبل أن نقتطف بندقية، اقتحموا بيوتاً أطلقت النار في شملان، ولاقوا براميل مليئة بالريالات الفضية، وما مد مقاوم إليها يداً».
«التوجيه المعنوي» جزءاً هاماً في استراتيجية حرب السبعين، وبداية الانطلاق للإعلام العسكري اليمني، كان حاضراً وبقوة، يلتقي الوجوه المُحاربة، ويلمس شغاف قلوبهم، أسسه أحد مناضلي «ثورة سبتمبر» الضابط محمد حسن السراجي، وتولى زمامه حوالي «30» ضابطاً، إلى جانب فصيل احتياطي، تم تشكيله بأوامر من عبدالرقيب عبدالوهاب «رئيس هيئة الأركان»، تم دفعه في حال استجدت احداث طارئة، وأدى دوره ببسالة أثناء معارك «عصر».
عندما تشكلت «المقاومة الشعبية»، كان ضباط التوجيه من بين أعضاء قيادتها، ومقاتليها، وكان لهم برنامج إذاعي يومي اسمه «حماة الوطن»، القائمون عليه يعدونه ويسجلونه ميدانياً، ينطلقون إلى المواقع، ويعيشون مع الجنود، وينقلون انطباعاتهم، ويرفهون عليهم، بمشاركة رائعة للفنان علي الأنسي، والفنان الساخر حمود زيد عيسى «صالح علي»، اللذان ارتديا الزي العسكري، وحملا السلاح، ورافقا فريق «التوجيه» خطوة خطوة.
وتمثلت أبرز مهام أعضاء «التوجيه المعنوي» في استقبال الصحفيين الأجانب، ومرافقتهم إلى مواقع التماس، وعن طريق هؤلاء المراسلين، تم نقل تفاصيل الحصار أولا بأول، وعرف العالم الكثير صنعاء، المدينة المنكوبة، وقصة صمودها الأسطوري.
«التوجيه المعنوي» كان كاميرا التصوير، التي وثقت أحداث تلك الملحمة، وأسست العمل «الفوتوغرافي» العسكري المحترف، وكان أيضاً منشورات الحرب النفسية، ومحاضرات رفع الروح المعنوية، وبيانات سياسية موجهة، صدرت أربعة منها، ثلاثة موجهة لحشود المرتزقة، وبيان أخير للطابور الخامس، كان افتتاحه بالآية الكريمة: «لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم»، وختامه ببيتين من الشعر:
أما سماسرة البلاد فعصبة
عار على أهل البلاد بقاؤها
ابليس أعلن صاغراً إفلاسه
لما تبين عنده اغراؤها
يقول شاعر «القوات المسلحة» عبدالله معجب:
سبعين صنعاء يا رمز الصمود أرى
نصر الإرادة من خديك تلقيه
سبعين صنعاء في عينيك لا تدعي
ثعالب المسخ والإحباط تلهيه
سبعين صنعاء ذري كل من عبثوا
وكفني كل مدسوس ومشبوه
صدي الثعابين أن الزيف قد نضجت
أشباحه السود واجتثت أياديه
كان المقامون يرددون بعض الزوامل الحماسية، منها هذا الزامل الذي صاغ كلماته محمد حسين الحضرمي:
يوم الحصار اشتد ونادانا المناد
أين الرجال بالغوث صنعاء تحتضر
اين الذي قالوا على خير الجهاد
وفكوا المدفع باوجاه الفجر
واحنا استعدنا والامل فينا استعاد
الله اكبر قالها كل البشر
لبيت يا صنعاء يا نبض الفؤاد
الكون لاجلك قد تجمع واحتشر
كان لـ «التوجيه المعنوي» إذاعة متحركة، بسيارة نقل مكشوفة، تنطلق إلى المناطق المستهدفة بالقذائف العشوائية، وتفتح الأناشيد والشعارات والأشعار الحماسية، التي كان لها أعظم الأثر في تثبيت النفوس، وترسيخ الطمأنينة، وإلى جانب الصوت والقلم، شارك أعضاء «التوجيه» في القتال، وسقط ثلاثة من أفضل ضباطه شهداء، في سبيل القضية والوطن.
يقول نعمان المسعودي، وهو مدير ذات الدائرة إبان الحصار: «لم يكن هناك موقع عسكري لم نزره، ونعيش مع أبطاله، ومعنا الفنانون، وجهاز التسجيل، ومعدات التصوير، لم تكن هناك حارة أو شارع في العاصمة إلا وصدحت فيه الأناشيد الثورية، والكلمات الحماسية، عبر ميكرفون سيارة التوجيه، التي كانت تزود المواطنين أيضاً بالمواد الغذائية الضرورية، وكان العمل الإعلامي على خط وطني واحد، من مقر إدارة التوجيه المعنوي، إلى مقر قيادة المقاومة الشعبية، إلى إذاعة صنعاء».