بلال الطيب :
رغم تعدد كياناتها السياسية، وصراعها المستمر، ظلت وحدة اليمن الحضارية فارضة حضورها منذ الأزل، وثمة شواهد كثيرة تؤكد تجانسها وتكاملها الديني والاقتصادي والثقافي، بفعل الإنسان اليمني، الذي كان أساس ذلك، ومصدر قوته وديمومته.
الشيخ محمد بن سالم البيحاني، الذي ولد في شبوة، وتعلم في حضرموت، وعاش في عدن، وتوفي ودفن في تعز، واحدٌ من أعلام كُثر، رسخوا وحدة اليمن الحضارية، واستعصوا في حياتهم وبعد مماتهم على أوهام التفرقة والشتات.
في منطقة «القصاب ـ بيحان»، وفي «20 أغسطس 1908» رأى «البيحاني» النور لأول مرة، ليبتلى وهو في الرابعة من عمره بفقدان البصر، فحباه الله بصيرة نافذة، كان محباً للعلم، شغوفاً بفنونه، وما أن أكمل دراسته الأولى حتى يمم خطاه صوب «تريم»، نهل وعلى مدى خمس سنوات من علمائها، ثم توجه صوب عدن، المدينة التي كانت وما زالت تئن من وطئة الاحتلال.
كانت مصر الكنانة وجهة «البيحاني» الثالثة، توجه إليها عضواً في بعثة تعليمية لـ «نادي الإصلاح العربي»، وحصل منها على «عالمية الأزهر»، ثم التحق بكلية الشريعة، ليعود فور إكماله دراسته إلى عدن مرة أخرى.
في العام «1949» تأسست في عدن «الجمعية الإسلامية الكبرى»، كان «البيحاني» أحد أبرز مؤسسيها، وفي «5 سبتمبر» من العام «1957» توج جهوده بافتتاح «المعهد الإسلامي» بكريتر، فكان ذلك الصرح قبلة لطلاب العلم الوافدين من جميع أنحاء اليمن.
كان «البيحاني» على ارتباط وثيق بإخوانه في الشمال، وكان دائماً ما يقدم نصيحته الصادقة للإمام أحمد، طالباً إياه بتحسين أوضاع الرعية، وإنصاف المظلومين، وقد بعث له عدة قصائد تحث على ذلك، جاء في إحداها:
وجميع ما نرجوه من فضل الإمام
هو المضي بمجده المعهود
في فك مسجون ورد مهاجر
ترك البلاد وعاش بين هنود
في «30 نوفمبر 1967» نال جنوب اليمن استقلاله، ضيق الحكام الجدد على «البيحاني»، فما كان منه إلا أن توجه صوب مدينة تعز، وجهته الرابعة والأخيرة، وهناك أستقبله المحسن الكبير هائل سعيد أنعم، فأحسن إليه أيما إحسان، وكان مقر إقامته مزاراً مفتوحاً لمحبيه، حتى حانت لحظة وفاته «13 فبراير 1972»، تاركاً مؤلفات عدة، منها: «عبادة ودين»، و«كيف نعبد الله»، و«الفتوحات الربانية».
أمام جنازة «البيحاني» في مدينة تعز تجسدت الوحدة الوطنية بأبهى صورها، وإلى مثواه الأخير في باحة «جامع المظفر»، شيعه جمع غفير من رجالات اليمن المرموقين، يتقدمهم الشيخ محمد علي عثمان عضو المجلس الجمهوري.
وقد رثاه حينها تلميذه النجيب، جدي الشيخ أحمد عبدالولي الطيب بقصيدة طويلة، نقتطف منها:
عَـززت قلبي تصبــراً فأجـــابني
لا صبر لــــي وفــــراقه أبــكـــــاني
فهـــو الهــزبر الضيغم موسومـــه
والـهيــلــج الــمُتـــوقــــد النــــوران
حـاز المفـــاخر والعــلوم بــأسرها
حـــاز العـُلا على ذوي الأقـــــران
تعز التي قد عـُـــززت بحلوله
فيهـا وصـــارت مرهــن الجُثــــمان
فالله يــــــــرحمه ويرحمنا معاً
ويــَــعـُـــمنا بالعفــــو والغــــــفـــران