بلال الطيب :
شَهِدت «الإمامة الزيدية» على يد أحفاد «الهادي» يحيى ملامح انهيارها الأول، تنافس الأخوة الأعداء على الحكم، وافترقوا إلى أبناء حرائر وجواري، تصارعوا، ثم تقاتلوا، فكان الحال أقرب لحرب العصابات، وهم زعماؤها المَسنُودون من السماء، والمَدعُومون بهذه القبيلة أو تلك.
كانت نِهايتهم حينها وشيكة، وما كان لإمامتهم أن تُعاود الظهور من جديد؛ لولا مُناصرة أحد مشايخ همدان لها، واعتناقه مذهبها، وتعصبه له، ودعمه لدعاته الذين تصدَّروا المَشهد، وعملوا على إعادة إحيائه، ونشره سلماً في المناطق التي عجز من سبقهم من الأئمة عن تثبيته فيها بحد السيف.
بعد وفاة «النَّاصر» أحمد بن «الهادي» يحيى، اختار العلويون ولده الأكبر الحسن إماماً، تلقب الأخير بـ «المُنتجب»، ليُعارضه في أواخر العام «322هـ / 935م» أخواه القاسم، الذي تلقب بـ «المُخْتَار»، ويحيى الذي تلقب بـ «المنصور»، اعتزل يحيى الأمر، فيما بقي التنافس بين الحسن والقاسم.
حينما رأى «المُخْتَار» ميلان بني عمومته لصف «المُنتجب» ابن الجارية، قرر – وهو ابن الشريفة الحُرة – رفع راية العصيان، توجه إلى همدان، استقر في ريدة مدة، وهناك حارب مظفر بن عليان بن الدعام، وحالف «شيخ حاشد» أحمد بن الضحاك، انتصر على الأول، واختلف ـ بعد عامٍ من الوئام ـ مع الأخير.
مال «ابن الضحاك» إلى صف «المنتجب»، حاول استمالة «ابن عليان» إلى صفه، إلا أن «المُخْتَار» سبقه إلى ذلك، لتدُور في منتصف العام «325هـ» مواجهة شرسة بينه وبين «المُخْتَار»، هُزم فيها الأخير، وخسر عدداً كبيراً من الأنصار.
بعد ثلاثة أعوام من القطيعة، تصالح الأخوة الأعداء «ربيع الآخر 326هـ»، ودخل «المُخْتَار» صعدة برفقة أخيه «المنتجب»، وما هي إلا أيام قلائل حتى نَكث الأخير الصلح، واستعر القتال، أجاد «المُخْتَار» إدارة الأمور، كسب سُكان المدينة إلى صفه، فكسب المعركة.
قبيلتا «سعد» و«الربيعة» كانتا طرفاً بارزاً في ذلك الصراع، وإذا كانت الأخيرة قد ناصبت «الهادي» من قبل العداء، إلا أنها هذه المرة دخلت معمعة صراع أحفاده الأعداء، وناصرت «المنتجب» الطرف الأضعف، ليس حباً فيه؛ ولكن نكاية في أعدائها «السعديين»، المناصرين لمنافسه.
توجه «المنتجب» بعد هزيمته إلى خيوان، واتفق مع «ابن الضحاك» على اجتياح صعدة، بمساعدة أنصاره «الأكيليين» من «الربيعة»، وحين رأوا استماتة «المُخْتَار» بالدفاع عن المدينة، لجأوا إلى الحيلة، أوهموه بالمصالحة، وطلبوا منه الخروج للتهدئة، لم تهدأ الفتنة؛ بل سقطت صعدة «رمضان 326هـ»، وعاث فيها المنتصرون نهباً وخراباً.
وعن ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «وتمكن القوم من صعدة، فنهبوها نهباً شديداً، وقتلوا من أهلها، وسبوا، وفعلوا بهم أعظم من فعلِ القرامطة، وخرج أكثر أهل صعدة عنها»، وأضاف: «وكان الحسن بن الناصر فيهم كأحدهم، ليس له من الأمر شيء، إلا إثارة الفتنة».
بعد هزيمته، استنجد «المُخْتَار» بقبائل «نجران، ووائلة، ودهمة، وبني سليمان»، واجتمع إليه منهم عسكر عظيم، سار بهم إلى صعدة، ودارت بينه وبين القبائل المُناصرة لأخيه معارك كثيرة، أعاد السيطرة على المدينة المنكوبة، إلا أن أمرها لم يستقر له ولا لغيره.
عاد «ابن الضحاك» بعد هزيمته إلى ريدة، وعاد «الأكيليون» إلى علاف، ومن الأخيرة ناشد الهيصم بن عباد الجميع، اجتمعوا، ثم أعادوا الكرة على مدينة صعدة، دخلوها للمرة الثانية، واستباحوها لثلاثة أيام، فيما غادرها «المُخْتَار» إلى العشة، ولم يعد إليها إلا وهي أطلال، عاف المقام بها، وغادرها إلى أكثر من جهة.
لم تتوقف الحرب، ولم يهدأ الصراع، وحين رأت القبائل المُساندة للإمامين عدم انتصار أي منهما، اجتمع مشايخ «الربيعة»، و«بنو سعد»، ومعهم «شيخ حاشد»، واتفقوا مطلع العام «327هـ» على عزل الأخوين، وعلى أن يجعلوا بينهم هدنة لعامين.
لم يُعزل الأخوين، ولم تستمر الهدنة، دخل «ابن الضحاك» صعدة دون قتال، استبد بأمرها، وأمر بهدم الحصن الذي بناه «النَّاصر»، وزاد في المُكوس والضرائب على من تبقى فيها من التجار، غادرها الأخيرون مُكرهين، وتركوها «أقفر من جوف حمار».
علم «السعديون» بذلك، راسلوا «ابن الضحاك» مُعترضين، ونهضوا مع «المُخْتَار» لحربه، ومعهم قبائل نجران، وغيرهم، توجهوا إلى صعدة، دخلوها بعد أن غادرها «شيخ حاشد»، ومنها توجهوا إلى «غيل جلاجل» غرب ذات المدينة، عسكروا هناك، وكثفوا من استعداداتهم لمعركة حاسمة.
التقى «المنتجب» بـ «ابن الضحاك» وبأنصاره «الأكيليين»، قادهم لـ «غيل جلاجل»، وهناك كانت هزيمته مُنكرة، عاد أدراجه بلا طائل، وفي علاف كانت وفاته «11 ذي القعدة 327هـ»، وفيها دفن، ليخلفه أخوه «المنصور» يحيى، الذي جدد من ذات المنطقة دعوته، والراجح أنهما شقيقان، بدليل أنَّ كليهما ـ كما أشار «الزحيف» ـ من أبناء جواري «النَّاصر».
دارت بين «المنصور» وأخيه «المُخْتَار» حروباً كثيرة، كانت الغلبة فيها للأخير، ليقوم بعد ذلك بتنظيم أمور دولته، وتعيين العمال على ما تحت يديه من مناطق، وبعد سنوات من الاستقرار النسبي، توجه صوب ريدة «344هـ / 957م»، وجعل عليها أبا القاسم بن يحيى بن خلف.
سمع «ابن الضحاك» بذلك، فتوجه إليه، وقيل أنه استمد من «المُخْتَار» ولاية صنعاء القادم لتوه منها، وهي رواية مشكوك في صحتها، خاصة وأنَّها ـ أي المدينة ـ كانت حينها خاضعة لحكمه، بدليل قول «الهمداني» عنه: «ودخل صعدة ثلاث مرات فأخربها، ودخل صنعاء كرتين فأحسن فيهما».
جميع من أرَّخ لتلك الحقبة أشاروا إلى أن «ابن الضحاك» قبض على «المُخْتَار» غدراً، وأنَّه زج به في سجن حصن «تُلقُم» بلا جريرة، والراجح أنَّه غضب من مقدمه إلى ريدة، والمتفق عليه أنَّه سجنه لثمانية أشهر، ثم قام بقتله «شوال 345هـ»، مُتنكراً للصداقة التي كانت تجمعه بأبيه.
أعلن حينها محمد بن «المُخْتَار» القاسم نفسه إماماً، تلقب بـ «المنتصر»، وكانت له وقائع كثيرة مع الهمدانيين؛ ثأراً لأبيه، ليناصره في حروبه تلك ابن قاتل أبيه قيس بن أحمد بن الضحاك، كان الأخير من كبار المُتعصبين للمذهب «الهادوي»، أرضعه إياه الإمام الصريع، وفيه قال «الزحيف»: «ويقال أن أكثر الأسباب في ظهور مذهب الهادي في اليمن، قيس هذا، لأنه قوى مذهب شيعة الهادي بتعصبه لهم».
وقف قيس بن الضحاك في صف «المُنتصر»، وجمع له الجنود من «نجد، ونجران، والسَّراة»، حارب بهم بني قومه في خيوان، انتصر عليهم، ومَكَّن سيده من حكمهم وإذلالهم، بل أنه ولكسب رضاه، قام بقتل والده الشيخ المسن، فأبكى بذلك جميع اليمنيين.
قال «المُنتصر» حينها قصيدة طويلة تباهى فيها بانتصاره ذاك، جاء فيها:
بردت الغل ثم شفيت نفسي
بقتلي للأولى قتلوا الإماما
وأفطر سيف ثأر بني علي
ومنهم طال ما قد كان صاما
يدين الناس كلهم جميعاً
لمرضعنا وما بلغ الفطاما
ولولا نحن ما خروا سجوداً
ولا مثلوا إلى نفل قياما
في تلك الأثناء، كان وما يزال «المنصور» يحيى مُتمسكاً بالإمامة، مَسنُوداً ببعض قبائل صعدة، وذكر صاحب «مطلع البدور» أنه بعث بأحد أقاربه إلى العراق، فترة ما كان أبو عبدالله محمد بن الداعي مُقيماً فيها، وقال له: «اختبر حال أبي عبدالله بن الداعي، فإن رأيته أفضل مني، وأولى بالإمامة، فاكتب إلي بذلك لأبايع له، وأدعوا إليه، وأطيعه»، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن «الإمامة الزيدية» في اليمن عاشت خلال تلك الفترة أسوأ انكماشاتها.
أمام تلك الانتكاسة، تصدَّر المَشهد عدد من الدعاة، عملوا على إعادة إحياء المذهب «الهادوي»، ونشره سلماً في المناطق التي سبق وعجز الأئمة عن تثبيته فيها، كان أحمد بن موسى الطبري أشهرهم، اتبع أسلوب أستاذه «المرتضى» محمد، مُتخذاً من الزهد والورع وسيلة لكسب الأتباع، تصدر للتدريس في إحدى مساجد صنعاء، حمل فيما بعد اسمه، وتنقل ما بين صنعاء وعمران، وحظي بدعم «آل الضحاك» حكام تلك المناطق آنذاك.
سياسياً، وفي الوقت الذي انقطعت فيه أخبار «المنتصر» محمد، ظل ذكر عمه «المنصور» يحيى ـ رغم ضعفه ـ سارياً، استقر الأخير في صعدة، وفيها مات «محرم 366هـ»، ودفن جوار أبيه وجده، لم يُعلن حينها أحد من أحفاد «الهادي» نفسه إماماً، لعدم اكتمال الشروط التي وضعها الجد المُؤسس.
كسر يوسف بن «المنصور» يحيى بعد عامين حاجز الصمت والرهبة، دعا لنفسه من ريدة «368هـ / 978م»، استخرج رفاة عمه «المُخْتَار» القاسم، ونقلها إلى صعدة، تلقب بـ «الداعي»، كونه لم يستوفِ شروط الإمامة، كانت له جولات كثيرة مع قيس بن الضحاك، والمنصور بن أبي الفتوح، يحاربهما مرة، ويصالحهما مرة أخرى، ليتحالف بعد ذلك مع الثاني ضد الأول، دخلا صنعاء أكثر من مرة، وسبيا بعض نسائها، وعاثا فيها نهباً وخرابا.
لم تستقر صنعاء بعد ذلك على حال، ولم تُسلم أمرها لا لـ «الداعي» يوسف، ولا لـ «ابن الضحاك»، ولا لـ «ابن أبي الفتوح»، ولا لباقي قبائل الطوق المُتصارعة، التي كانت تلعب بها العصبية المقيتة، وتتلقفها شهوة الهيمنة والإخضاع.
أنصار الزيدية ـ هم الآخرون ـ اعترضوا على داعيهم الضعيف، ولم يعترفوا بإمامته، وهو ذات التصرف الذي كرره بعض الأتباع طيلة القرون الفائتة، وفي مُصنفات هؤلاء، وجدنا أنَّ «الداعي» يوسف ليس من الأئمة السابقين، فيما اعترف به آخرون، استدعى أبطال الاعتراض الأول القاسم العياني من عسير، ونصبوه إماماً، لتبدأ بوصول الأخير مَرحلة جديدة من الصراع، وبعناوين مُختلفة.