للمؤرخ سلطان ناجي، 1976م :
في الوثيقة السرّية رقم 18 المؤرخة في 24 فبراير 1858م و الموجهة من المقيم السياسي البريطاني في عدن (دبليو .أم . كوغلان) إلى حاكم الهند (إتش . أل . أندرسون)، و عندما كانت النيّة مُبيّتة للهجوم على الشيخ عثمان، يحاول كوغلان إعطاء الحاكم البريطاني في الهند لمحة تاريخية عن هذه المدينة اليمنية بقوله: ( و يجدر هنا أن نعطي إشارة قصيرة عن أهمية الشيخ عثمان. فهي قبل تاريخ هذا النزاع بمدى خمسين عاماً لم تكن سوى مزار و بها مسجد يصلي به المسافرون و محطة للقوافل. و بعد ذلك بُنيت قلعة صغيرة بالقرب منها كان يحرسها بعض أفراد قبيلة العبدلي بقيادة ضابط يعينه سلطان لحج، أما بقية السكان و عددهم نحو خمسين رجلاً فيعملون في صيد السمك و جمع الملح. و على الرغم من توفر المياه فلم تقم زراعة هناك. و منذ زاد الطلب على المياه في عدن قام السلطان علي بتعيين حراسة للآبار ثم أحتل أفراد من قبيلته المنطقة التي تعتبر ملتقى الطرق الآتية من الداخل و السائرة عبرها و التي منها تأتي غالبية المؤن الضرورية إلى عدن. فالموقع ذو أهمية بالغة و يعطي للمتحكم فيه الحماية أو المضايقة لكل من يقترب من أبواب عدن. و هو على بعد ميلين و نص من خور مكسر الذي يُعد نهاية حدود الأراضي البريطانية في إتجاه لحج، أما المنطقة الواقعة بين الشيخ عثمان و لحج فتسكُنها عشيرة العزيبي و هي فرع من العبدلي. إن إستيلاءنا على الشيخ عثمان يعد ضربه قاسية للسلطان علي، فقد يمنعه ذلك الحصول على أية دخول من الآبار، هذا بالإضافة إلى فقده لراتبه الشهري مما سيؤدي في النهاية إلى خضوعه لنا، ثم أن إحتلال الشيخ عثمان سوف يؤدي إلى المحافظة على جعل الطرق مفتوحة في كل المراكز حتى لحج نفسها و بذا يمكن لعدن المتاجرة مع المدن الأخرى و لن يستطيع السلطان علي أن يعوق هذا الإتصال).
حسب الوثيقة أعلاه إذن فإن الشيخ عثمان كانت في بداية القرن التاسع عشر لا تزال عبارة عن قبر أو مزار للولي الشيخ عثمان المدفون فيها و التي سُمّيت بإسمه ثم عشش قليلة تستوعب حوالي خمسين صياداً و ملاحاً، و يؤيد هذا الكلام (هنري سلت) الرحالة البريطاني الذي زار المنطقة قبل ثلاثين سنة من الإحتلال البريطاني لعدن. فعندما تكلّم عن منطقة الشيخ عثمان عام 1809م وهو في طريقه إلى لحج، يُظهر لنا أنها كانت لا تزال غابة من الغابات فهو يقول: (بعد حوالي نصف ميل من قبة الولي توغّلنا في غابة عميقة .. و تمتد هذه الغابة حوالي ثمانية أميال و يُقال أن الواحد سيمشي يومين كاملين عرضها من الغرب إلى الشرق)، ثم يُضيف سلت قائلاً: (إن الأغنام و الجمال كانت تُشاهد في كل أنحاء الغابة و إنها كانت تقتات الأوراق أو الأغصان الطريّة). كذلك فأن خارطة رسمها هينس عام 1839م تُظهر وجود غابة في هذه المنطقة.
و لا شك أن منطقة الشيخ عثمان كانت ضاحية من ضواحي الميناء (كريتر) و إن ازدهارها و ذبولها أرتبط بمصيره، إلا أن التسمية الحالية لا ترجع إلى أكثر من حوالي المائتي عام. و في حوالي 1500م (أي قبل 475 عاماً من الآن) هناك ذكر بأن الملك عبد الوهاب بن طاهر قد مد ساقية للماء من خارج عدن إلى كريتر من بير (أم هيت)، و كان طول الساقية (16000) ياردة. و الإحتمال أن ذلك البئر كان في مدينة الشيخ عثمان.
و بعد إحتلال الانجليز لعدن عام 1839م نجد أن الشيخ عثمان تصبح المكان الرئيسي لتجمّع المقاومة ضد الإحتلال البريطاني لعدن. فمعظم الهجمات الرئيسية التي كانت تُشن ضد كريتر خلال الخمس عشرة سنة الأولى من الإحتلال البريطاني كانت تبدأ من الشيخ عثمان. فمثلاً في 11 نوفمبر 1840م تجمّع حوالي خمسة آلاف مقاتل يمني من قبائل لحج و أبين في الشيخ عثمان و قاموا بغزو عدن. و لكن بما أن الانجليز كانوا يسيطرون على جبال عدن و كانوا يمتلكون أسلحة ثقيلة و متطوّرة أستطاعوا صد الهجوم اليمني قرب جبل حديد، و أُستُشهد في هذه المعركة أكثر من مائتي مقاتل و جرح ثمانية و ثمانون، أما الأسرى فقد أُستشهد ثمانية من كل تسعة منهم.
كذلك كان هجوم يمني آخر في يوليو 1841م، و حاول اليمنيون تسلّق جبال كريتر و لكن نيران المدافع البريطانية من الجبال و من ظهر السفن الراسية أنزلت بهم خسارة فادحة. و خسر اليمنيون حوالي ثلاثمائة شهيد و خمسين جريحاً. و في 11 أكتوبر قام الإنجليز بغزو الشيخ عثمان و تمكّنوا من تدمير نوبة الشيخ مهدي ثم قلعة الشيخ عثمان ذاتها.
و أستمرّت الشيخ عثمان تُستخدم كمكان لتجميع المقاومة. فعندما جاء الشريف إسماعيل بالمجاهدين من وسط الجزيرة العربية لغرض إخراج الإنجليز من عدن نجد أيضاً أن الشيخ عثمان تصبح مكان رئاسته في عام 1846م و منها كان يرسل هجماته. و مرة ثانية قام الإنجليز في 1858م بالهجوم على الشيخ عثمان بقيادة كوغلان نفسه المقيم السياسي البريطاني الثاني في عدن و دمّروا القلعة، و أُستشهد أربعون يمنياً.
و في عام 1868م أستطاع الإنجليز أن يتفقوا مع السلطان العبدلي على إقامة قناة للماء من الشيخ عثمان إلى برزخ خور مكسر، فقد بُنيت هناك داخل السور التركي قرب جبل حديد بركة كبيرة لإستلام مياه القناة و منها كانت تحملها جواري الجمال عبر بغدة (نفق) جبل حديد إلى كريتر. و كانت مسألة الماء من القضايا التي كانت تؤدي إلى تبادل الهجمات بين الإنجليز و أهالي الشيخ عثمان و ذلك بسبب فرض السلطان الضرائب و الرسوم على أحمال المياه التي كانت تأخذها الجمال إلى عدن كلما ساءت العلاقة بينه و بين الإنجليز.
و نتيجة الوجود التركي الثاني في شمال اليمن، فقد قام الإنجليز بتوسيع منطقة نفوذهم، فأستطاعوا بأثمان بخسة أن يشتروا عدن الصغرى من العقربي ثم الشيخ عثمان من السلطان العبدلي و ذلك بمبلغ خمسة و عشرين ألفاً من الريالات و كان ذلك عام 1882م. و يعود تخطيط مدينة الشيخ عثمان و بناؤها بالشكل الذي هي عليه الآن إلى ما بعد ذلك التاريخ. أما مدينة الشيخ عثمان الأصلية فهي قرية الشيخ الدويل التي بجانبها قبر الولي و الذي سُمّيت المدينة بإسمه.
و في عام 1885م أستطاعت شركة إيطالية تأسيس أول صناعة للملح في منطقة الشيخ عثمان و تبعتها في عام 1899م شركة هندية. و بسبب الحاجة إلى مئات من العمال في هذه الصناعة الناشئة بدأت الشيخ عثمان تتوسع . كذلك بسبب إزدحام السكّان في كريتر أنتقلت أعداد لا بأس بها إلى المدينة لا سيما أن مشكلة المياه لم تكن موجودة فيها مثل كريتر و المعلا و التواهي. و كذلك فإن هواءها البرّي العليل خاصة أثناء الليل قد جذب إليها بعض الموسرين من كريتر فكانت لهم بيوت في الشيخ عثمان خلال فصل الصيف أو بساتين ذات برك للسباحة في ضواحي المدينة.
و في بداية هذا القرن دُفن في المدينة الولي (هاشم بحر) و سرعان ما أصبحت زيارته أهم من زيارة الشيخ عثمان في (الشيخ الدويل) الذي سُمّيت المدينة بإسمه، بل و أصبحت زيارة الهاشمي تكاد تكون أهم زيارة في عدن. و لا شك أن موقع المدينة قد ساعد على جذب الناس إليها يوم الزيارة كنوع من الفسحة و للهروب من هواء كريتر الرطب الحار.
و يصف لنا الريحاني الذي زار عدن في مطلع هذا القرن هذا الولي بأسلوبه الساخر قائلاً: ( إن ولي الله هاشم بحر كان يشتغل حمالاً عند أحد التجار في كريتر، و قد لاحظ عليه صاحبه كثرة إدمانه تعاطي القات بعد الظهيرة و النوم الكثير في الصباح. و في مرة من المرات جاء إلى صاحبه و هو يحمل كيساً من النقود، فترجاه أن يشتري له بقعة في الشيخ عثمان ليبني له عليها مسجداً لأنه أراد أن يُطهّر المدينة من إغراء الصوماليات و كذا من شرّ عساكر الإنجليز الذين أفسدوا أخلاق الشيخيين بسبب ترددهم الدائم على أماكن البغاء. و أشترى التاجر البقعة و بني هاشم بحر عليها المسجد و بعد مدة بعث الله له الوحي بشكل “حُمّى” فأوصى بأن يُدفن جسده تحت قبّة المسجد و لكن ذلك لم يكن ممكناً ما لم توافق سكرتارية المستعمرة على إعطاء الرخصة. فقام الوسطاء و ذهبوا يطالبون بالرخصة و لكن دون جدوى. فما كان من ولي الله الصالح إلا أن بعث بإنذار شفوي و هو على فراش الموت و هذا نصه: ” قولوا للإنجليز إنني لن أموت إن شاء الله قبل الحصول على الرخصة”. فأُعطيت له الرخصة لأن الإنجليز كانوا يحتاجون إلى ولي جديد في المدينة).
و بالطبع فان إشارة الريحاني أعلاه إلى أماكن البغاء لم تكن إعتباطية أو على سبيل النكتة. فالواقع أن الإنجليز عندما خططوا تعمير الشيخ عثمان كان من أهدافهم إنشاء أماكن بغاء لجنودهم في المدينة، و بالفعل كانت المدينة محاطة تقريباً من جهاتها الأربع بشوارع خاصة لبائعات الهوى، و قد أُستُجلب معظمهن من الخارج خاصّة من سواحل أفريقيا. و قد بقي البغاء يُمارس رسمياً في المدينة حتى الخمسينات من هذا القرن.
و في الحرب العالمية الأولى تعرّضت المدينة للهجوم التركي. فقد أستطاع علي سعيد باشا عام 1915م أن يحتل لحج و أنسحب الإنجليز من مدينة الشيخ عثمان. و قد قام أهالي المدينة بإعلان إستقلال المدينة و على رأسهم أحد فتوات المدينة المشهورين و أسمه (بنتيشه). و خلال تلك الأيام التي لم تكن توجد سُلطة في المدينة تعرّضت بعض الدكاكين للنهب و قُتل بعض التجّار. و قد جاء بعض السكان با لأتراك و بقوا فيها بضعة أيام ثم أنسحبوا منها فعاد الإنجليز و أحتلوها.
و من المؤسسات القديمة في الشيخ عثمان و التي كانت تجذب الناس من الأرياف و شمال اليمن مستشفى الإرسالية الذي كان يُعرف بإسم مستشفى (كيث فولكنر) و الذي تأسس في بداية هذا القرن. و قد أرتبط بالمستشفى قيام مدرسة فيه كان لها الفضل في تعليم الرعيل الأول من شباب الشيخ عثمان. و قد أصبح المستشفى يُعرف فيما بعد بمستشفى (عفارة) ، و كان عفارة أول طبيب يمني.
كذلك فقد تأسست في الشيخ عثمان بعد الحرب العالمية الأولى مصابغ الثياب القطنية و أصبح قسم من المدينة خاصاً بذلك. و في حارة أخرى (حافة دُبع) كانت هناك صناعة الأنسجة القطنية اليمنية الشهيرة التي كانت زبيد و منطقة تهامة مشهورة بصناعتها و هي (البر ود اليمانية). و قد أنقرضت هذه الصناعات المحلية منذ الخمسينات و لا تزال بعض أعمال الصباغة باقية.
و من القبائل الأخرى بجانب أهالي دُبـع التي سكنت الشيخ عثمان، أعداد كبيرة من (المقاطرة) من شمال اليمن، و أصحاب (لودر) المحافظة الثالثة، و (بيحان) الرابعة، و السبب في لجوء كثيرين من المقاطرة بعد حروبهم المشهورة مع الإمام يحيى في بداية العشرينات من هذا القرن أو في منتصف الثلاثينات بعد حركة حميد بن علي المقطري.
و أزدادت أهمية الشيخ عثمان في بداية الثلاثينات عندما حُفرت الآبار الأرتوازية في بستان (الكمسري) و أصبحت هي التي تزود كل مناطق عدن بمياه الشرب. و في الجهة الشرقية من المدينة يُصنّع ياجور البناء (الطوب) و كل أنواع المدر و الفخار و الخزف و لهذا سميت هذه الجهة بالممدارة. كذلك فقد كان نوع من العرق يُصنّع في تلك المنطقة، و كان لليهود شوارع خاصة في الشيخ عثمان. و في إضطرابات عام 1947م قُتل منهم العشرات و هاجر الباقون إلى الأرض المحتلة و قد أُقيم معسكر خاص في غرب المدينة سمي بمعسكر حاشد لتهجير يهود اليمن من هناك بعد الحرب العالمية الثانية. و في الجهة الشرقية الجنوبية كانت توجد ثكنات جيش الليوي ـ الجيش اليمني المحلي ـ الذي أُسس بعد الحرب العالمية الأولى. كذلك كان أحد بساتين الضاحية الشرقية مقراً للحرسين الحكومي و القبلي عند إنشائهما في أواخر الثلاثينات. و في عام 1942م تمرد أهالي الشيخ عثمان في قضية عبد الله شرف و قُتل منهم كثيرون دفاعاً عنه.
و في الخمسينات أُنشئ حوالي ألف مسكن صغير مكوّن من غرفة صغيرة و بهو صغير في الجهة الغربية في المدينة لإيواء الأعداد المتزايدة من السكان (حوافي اللبن)، كما تُرك للناس تعمير منطقة أخرى في الغرب خارج المدينة و التي عُرفت فيما بعد بمدينة القاهرة. و في إحصاء عام 1955م بلغ سكان المدينة (29879) نسمة.